الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ( ثم ينحط نحو المروة ويمشي على هينته فإذا بلع بطن الوادي يسعى بين الميلين الأخضرين سعيا ، ثم يمشي على هينته حتى يأتي المروة فيصعد عليها ويفعل كما فعل على الصفا ) لما روي { أن النبي عليه الصلاة والسلام نزل من [ ص: 459 ] الصفا وجعل يمشي نحو المروة وسعى في بطن الوادي ، حتى إذا خرج من بطن الوادي مشى حتى صعد المروة وطاف بينهما سبعة أشواط } قال ( وهذا شوط واحد فيطوف سبعة أشواط يبدأ بالصفا ويختم بالمروة ) [ ص: 460 ] ويسعى في بطن الوادي في كل شوط لما روينا ، وإنما يبدأ بالصفا لقوله عليه الصلاة والسلام فيه { ابدءوا بما بدأ الله تعالى به } ثم السعي بين الصفا والمروة [ ص: 461 ] واجب وليس بركن . وقال الشافعي رحمه الله : إنه ركن لقوله عليه الصلاة والسلام { إن الله تعالى كتب عليكم السعي فاسعوا } . ولنا قوله تعالى { فلا جناح عليه أن يطوف بهما } ومثله يستعمل للإباحة فينفي الركنية والإيجاب إلا أنا عدلنا عنه في الإيجاب . ولأن الركنية لا تثبت إلا بدليل مقطوع به ولم يوجد . ثم معنى ما روي كتب استحبابا كما في قوله تعالى { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت } الآية .

التالي السابق


( قوله وهذا شوط ) ظاهر المذهب أن كلا من الذهاب إلى المروة والمجيء منه إلى الصفا شوط ، وعند الطحاوي لا ، فقيل : الرجوع إلى الصفا ليس معتبرا من الشوط بل لتحصيل الشوط الثاني ، ويعطي بعض العبارات أنه من الصفا إلى الصفا لما ذكروا في وجه إلحاقه بالطواف ، حيث كان من المبدإ أعني الحجر إلى المبدإ وعنده في مراده من ذلك اشتباه ، وأياما كان فإبطاله بحديث جابر الطويل حيث قال فيه { فلما كان آخر طوافه بالمروة قال : لو استقبلت من أمري } الحديث لا ينتهض . أما على الأول فلأن آخر السعي عند الطحاوي لا شك أنه [ ص: 460 ] بالمروة ورجوعه عنها إلى حال سبيله ، فإنه إنما كان يحتاج إلى الرجوع إلى الصفا ليفتتح الشوط وقد تم السعي .

وعلى الثاني إذا كان الشرط الأخير صح أن يقال عند رجوعه فيه من المروة هذا آخر طوافه بالمروة ، لأنه لا يرجع بعد هذه الوقفة بها إليها . وإن احتاج إلى رجوعه إلى الصفا لتتميم الشوط ، وما دفع به أيضا من أنه لو كان كذلك لكان الواجب أربعة عشر شوطا ، وقد اتفق رواة نسكه عليه الصلاة والسلام أنه إنما طاف سبعة فموقوف على أن مسمى الشرط ما من الصفا إلى المروة أو من الصفا إلى الصفا في الشرع وهو ممنوع ، إذ يقول : هذا اعتباركم لا اعتبار الشرع لعدم النقل عنه عليه الصلاة والسلام في ذلك ، وأقل الأمور إذا لم يثبت عن الشارع تنصيص في مسماه أن يثبت احتمال أنه كما قلتم ، وكما قلت ، فيجب الاحتياط فيه ، وذلك باعتبار قولي فيه ويقويه أن لفظ الشوط أطلق على ما حوالي البيت . وعرف قطعا أن المراد به ما من المبدإ إلى المبدإ ، فكذا إذا أطلق في السعي إذ لا منصص على المراد .

فيجب أن يحمل على المعهود منه في غيره ، فالوجه أن إثبات مسمى الشوط في اللغة يصدق على كل من الذهاب من الصفا إلى المروة والرجوع منها إلى الصفا ، وليس في الشرع ما يخالفه فيبقى على المفهوم اللغوي .

وذلك أنه في الأصل مسافة يعدوها الفرس كالميدان ونحوه مرة واحدة ، ومنه قول سليمان بن صرد لعلي رضي الله عنه : إن الشوط بطيء : أي بعيد ، وقد بقي من الأمور ما تعرف به صديقك من عدوك ، فسبعة أشواط حينئذ قطع مسافة مقدرة سبع مرات ، فإذا قال : طاف بين كذا وكذا سبعا صدق بالتردد من كل من الغايتين إلى الأخرى سبعا ، بخلاف طاف بكذا فإن حقيقته متوقفة على أن يشمل بالطواف ذلك الشيء ، فإذا قال : طاف به سبعا ، كان بتكريره تعميمه بالطواف سبعا ، فمن هنا افترق الحال بين الطواف بالبيت حيث لزم في شوطه كونه من المبدإ إلى المبدإ ، والطواف بين الصفا والمروة حيث لم يستلزم ذلك

فرع

إذا فرغ من السعي يستحب له أن يدخل فيصلي ركعتين ( الحرم ) ليكون ختم السعي كختم الطواف ، كما ثبت أن مبدأه بالاستلام كمبدئه عنه عليه الصلاة والسلام ، ولا حاجة إلى هذا القياس إذ فيه نص وهو ما روى المطلب بن أبي وداعة قال { رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرغ من سعيه جاء ، حتى إذا حاذى الركن فصلى ركعتين في حاشية المطاف ، وليس بينه وبين الطائفين أحد } رواه أحمد وابن ماجه وابن حبان .

وقال في روايته { رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي حذو الركن الأسود والرجال والنساء يمرون بين يديه ما بينهم وبينه سترة } وعنه { أنه رآه عليه الصلاة والسلام يصلي مما يلي باب بني سهم والناس يمرون } إلخ وباب بني سهم هو الذي يقال له اليوم باب العمرة ، لكن على هذا لا يكون حذو الركن الأسود ، والله أعلم بحقيقة الحال .

( قوله لقوله عليه الصلاة والسلام ابدءوا ) اعلم أنه روي بصيغة الخبر " أبدأ " في مسلم من حديث جابر الطويل [ ص: 461 ] ونبدأ " في رواية أبي داود والترمذي وابن ماجه ومالك في الموطأ ، وبصيغة الأمر وهو المذكور في الكتاب وهو عند النسائي والدارقطني . وهو مفيد الوجوب خصوصا مع ضميمة قوله عليه الصلاة والسلام { لتأخذوا عني مناسككم ، فإني لا أدري لعلي لا أحج بعد حجتي هذه } أخرجه مسلم . فعن هذا مع كون نفس السعي واجبا لو افتتح من المروة لم يعتبر ذلك الشوط إلى الصفا ، وهذا لأن ثبوت شرط الواجب بمثل ما يثبت به أقصى حالاته وهو مما يثبت بالآحاد فكذا شرطه .

( قوله وقال الشافعي : إنه ركن إلخ ) قال الشافعي رحمه الله : أخبرنا عبد الله بن المؤمل العابدي عن عمر بن عبد الرحمن بن محيصن عن عطاء بن أبي رباح عن صفية بنت شيبة عن حبيبة بنت أبي تجزأة إحدى نساء بني عبد الدار قالت { رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بين الصفا والمروة والناس بين يديه . وهو وراءهم . وهو يسعى حتى أرى ركبتيه من شدة ما يسعى وهو يقول : اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي }

ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه : حدثنا محمد بن بشر حدثنا عبد الله بن المؤمل حدثنا عبد الله بن أبي حسين عن عطاء عن حبيبة بنت أبي تجزأة فذكره .

وخطئ ابن أبي شيبة فيه حيث أسقط صفية بنت شيبة وجعل مكان ابن محيصن ابن أبي حسين . قال ابن القطان : نسبة الوهم إلى ابن المؤمل أولى ، وطعن في حفظه مع [ ص: 462 ] أنه اضطرب في هذا الحديث كثيرا ، فأسقط عطاء مرة وابن محيصن أخرى ، وصفية بنت شيبة ، وأبدل ابن محيصن بابن أبي حسين ، وجعل المرأة عبدرية تارة ويمنية أخرى .

وفي الطواف تارة ، وفي السعي بين الصفا والمروة أخرى ا هـ .

وهذا لا يضر بمتن الحديث إذ بعد تجويز المتقنين له لا يضره تخليط بعض الرواة ، وقد ثبت من طرق عديدة منها طريق الدارقطني عن ابن المبارك : أخبرني معروف بن مشكان أخبرني منصور بن عبد الرحمن عن أخته صفية قالت { أخبرني نسوة من بني عبد الدار اللاتي أدركن رسول الله صلى الله عليه وسلم قلن دخلنا دار ابن أبي حسين فرأينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف } إلخ ، قال صاحب التنقيح : إسناده صحيح . والجواب : أنا قد قلنا بموجبه إذ مثله لا يزيد على إفادة الوجوب ، وقد قلنا به ، أما الركن فإنما يثبت عندنا بدليل مقطوع به ، فإثباته بهذا الحديث إثبات بغير دليل ، فحقيقة الخلاف في أن مفاد هذا الدليل ماذا ؟ والحق فيه ما قلنا . لأن نفس الشيء ليس إلا ركنه وحده أو مع شيء آخر .

فإذا كان ثبوت ذلك الشيء قطعيا لزم في ثبوت أركانه القطع لأن ثبوتها هو ثبوته ، فإذا فرض القطع به كان ذلك للقطع بها . وتقدم مثل هذا في مسألة قراءة الفاتحة في الصلاة ، وإذا تحققت هذا فجواب المصنف بتأويله بمعنى كتب استحبابا كقوله تعالى { كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية } مناف لمطلوبه ، فكيف يحمل عليه بعض الأدلة ؟ بل العادة التأويل بما يوافق للمطلوب فكيف ولا مفيد للوجوب فيما نعلم سواه ؟ فنحن محتاجون إليه في إثبات الدعوى ، فإن الآية وهي { فلا جناح عليه أن يطوف بهما } وقراءة ابن مسعود رضي الله عنه في مصحفه فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما لا يفيد الوجوب ، والإجماع لم يثبت على الوجوب بالمعنى الذي يقول به ، إذ ليس هو معنى الفرض الموجب فواته عدم الصحة فالثابت الخلاف ، والفريقان متمسكهم الحديث المذكور فلا يجوز أن يصرف عن الوجوب مع أنه حقيقته إلى ما ليس معناه بلا موجب ، بل مع ما يوجب عدم الصرف بخلاف لفظ " كتب " في الوصية للصارف هناك .

واعلم أن سياق الحديث يفيد أن الراد بالسعي المكتوب الجري الكائن في بطن الوادي إذا راجعته ، لكنه غير مراد بلا خلاف يعلم . فيحمل على أن المراد بالسعي التطوف بينهما ، اتفق أنه عليه الصلاة والسلام قاله لهم عند الشروع في الجري الشديد المسنون لما وصل إلى محله شرعا أعني بطن الوادي ، ولا يسن جري شديد في غير هذا المحل بخلاف الرمل في الطواف ، إنما هو مشي فيه شدة وتصلب .

ثم قيل : في سبب شرعية الجري في بطن الوادي " إن هاجر رضي الله عنها لما تركها إبراهيم عليه الصلاة والسلام عطشت فخرجت تطلب الماء وهي تلاحظ إسماعيل عليه السلام خوفا عليه . فلما وصلت إلى بطن الوادي تغيب عنها فسعت لتسرع الصعود فتنظر إليه " فجعل ذلك نسكا إظهارا لشرفهما وتفخيما لأمرهما ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما " أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما أمر بالمناسك عرض الشيطان له عند السعي فسابقه فسبقه إبراهيم عليه الصلاة والسلام " أخرجه أحمد .

وقيل : إنما سعى سيدنا ونبينا عليه الصلاة والسلام إظهارا للمشركين الناظرين إليه في الوادي الجلد [ ص: 463 ] ومحمل هذا الوجه ما كان من السعي في عمرة القضاء ثم بقي بعده كالرمل إذ لم يبق في حجة الوداع مشرك بمكة . والمحققون على أن لا يشتغل بطلب المعنى فيه ، وفي نظائره من الرمي وغيره بل هي أمور توقيفية يحال العلم فيها إلى الله تعالى




الخدمات العلمية