الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  152 19 - حدثنا معاذ بن فضالة قال : حدثنا هشام هو الدستوائي عن يحيى بن أبي كثير ، عن عبد الله بن أبي قتادة ، عن أبيه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إذا شرب أحدكم فلا يتنفس في الإناء ، وإذا أتى الخلاء فلا يمس ذكره بيمينه ، ولا يتمسح بيمينه .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقة الحديث في قوله : « ولا يتمسح بيمينه " .

                                                                                                                                                                                  ( بيان رجاله ) وهم خمسة :

                                                                                                                                                                                  الأول : معاذ ، بضم الميم وبالذال المعجمة ابن فضالة ، بفتح الفاء والضاد المعجمة البصري الزهراني ، أبو زيد ، روى عن الثوري وغيره ، وعنه البخاري وآخرون .

                                                                                                                                                                                  الثاني : هشام بن أبي عبد الله الدستوائي ، بفتح الدال وسكون السين المهملتين والتاء المثناة من فوق وبهمزة بلا نون ، وقيل : بالقصر وبالنون ، وقد مر تحقيقه في باب زيادة الإيمان .

                                                                                                                                                                                  الثالث : يحيى بن أبي كثير أبو نصر الطائي ، وقد مر في باب كتابة العلم .

                                                                                                                                                                                  الرابع : عبد الله بن أبي قتادة أبو إبراهيم البلخي ، روى عن أبيه ، وعنه يحيى وغيره ، مات سنة خمس وتسعين ، روى له الجماعة .

                                                                                                                                                                                  الخامس : أبو قتادة الحارث أو النعمان أو عمرو بن ربعي بن بلدمة بن خناس بن سنان بن عبيد بن عدي بن غنم بن كعب بن سلمة ، بكسر اللام السلمي بفتحها ، ويجوز في لغة كسرها ، المدني ، فارس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، شهد أحدا والخندق وما بعدها ، والمشهور أنه لم يشهد بدرا ، روي له مائة حديث وسبعون حديثا ، وانفرد البخاري بحديثين ، ومسلم بثمانية ، واتفقا على أحد عشر ، ومناقبه جمة ، مات بالمدينة ، وقيل : بالكوفة سنة أربع وخمسين على أحد الأقوال عن سبعين سنة ، ولا يعلم في الصحابة من يكنى بهذه الكنية سواه ، وربعي بكسر الراء وسكون الباء الموحدة وكسر العين المهملة ، وبلدمة بفتح الباء الموحدة وسكون اللام وفتح الدال المهملة ، ويقال : بضم الباء وبضم الذال المعجمة ، وخناس بكسر الخاء المعجمة وبالنون المخففة .

                                                                                                                                                                                  ( بيان لطائف إسناده ) .

                                                                                                                                                                                  منها أن فيه التحديث والعنعنة ، ومنها أن رواته ما بين بصري ومدني ، ومنها أن قوله : « هو الدستوائي " قيد لإخراج هشام بن حسان ; لأنهما بصريان ثقتان مشهوران من طبقة واحدة ، فقيد به لدفع الالتباس وغرض التعريف ، وقال الكرماني : وإنما قال بهذه العبارة اقتصارا على ما ذكره شيخه واحترازا عن الزيادة على لفظه .

                                                                                                                                                                                  ( بيان تعدد موضعه ، ومن أخرجه غيره ) .

                                                                                                                                                                                  أخرجه البخاري أيضا في الطهارة عن محمد بن يوسف عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير به ، وعن يحيى بن يحيى عن وكيع عن هشام به ، وفيه وفي الأشربة أيضا عن أبي نعيم عن شيبان عن يحيى به ، وأخرجه مسلم في الطهارة أيضا عن يحيى بن يحيى ، عن عبد الرحمن بن مهدي ، عن همام بن يحيى ، عن يحيى بن أبي كثير به ، وعن يحيى بن يحيى ، عن وكيع ، عن هشام به ، وفيه وفي الأشربة عن ابن أبي عمر عن عبد الوهاب الثقفي عن أيوب عن يحيى بن أبي كثير .

                                                                                                                                                                                  وأخرجه أبو داود في الطهارة عن مسلم بن إبراهيم وموسى بن إسماعيل كلاهما عن أبان بن يزيد ، عن يحيى بن أبي كثير ، وأخرجه الترمذي فيه أيضا عن ابن أبي عمر ، عن سفيان ، عن معمر ، عن يحيى بن أبي كثير به ، وقال : حسن صحيح .

                                                                                                                                                                                  وأخرجه النسائي فيه أيضا عن يحيى بن درستويه ، عن أبي إسماعيل القناوي ، عن يحيى بن أبي كثير به ، وعن هناد بن السري عن وكيع به ، وعن إسماعيل بن مسعود ، عن خالد بن الحارث ، عن هشام به ، وعن عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الزهري ، عن عبد الوهاب الثقفي به .

                                                                                                                                                                                  وأخرجه ابن ماجه فيه أيضا عن هشام بن عمار ، عن عبد الحميد بن حبيب بن أبي العشرين ، وعن دحيم نحوه ، عن الوليد بن مسلم ، كلاهما عن الأوزاعي به ، ولم يذكر التنفس في الإناء .

                                                                                                                                                                                  [ ص: 295 ] ( بيان اللغات ) .

                                                                                                                                                                                  قوله : « فلا يتنفس " من باب التفعل ، يقال : تنفس يتنفس تنفسا ، والتنفس له معنيان أحدهما : أن يشرب ويتنفس في الإناء من غير أن يبينه عن فيه ، وهو مكروه ، والآخر : أن يشرب الماء وغيره من الإناء بثلاثة أنفاس فيبين فاه عن الإناء في كل نفس ، وأصل التركيب يدل على خروج النسيم ، كيف كان من ريح أو غيرها ، وإليه ترجع فروعه ، والتنفس خروج النفس من الفم وكل ذي رئة يتنفس وذوات الماء لا ريات لها ، كذا قاله الجوهري ، قوله : « في الإناء " وهي الوعاء ، وجمعها آنية ، وجمع الآنية الأواني مثل سقاء وأسقية وأساقي وأصله غير مهموز ، ولهذا ذكره الجوهري في باب "أني" ، فعلى هذا أصله إناي ، قلبت الياء همزة لوقوعها في الطرف بعد ألف ساكنة ، قوله : « الخلاء " ممدود المتوضأ ، ويطلق على الفضاء أيضا .

                                                                                                                                                                                  قوله : « فلا يمس " من مسست الشيء بالكسر ، أمس مسا ومسيسا، ومسيسي مثال خصيصي ، هذه هي اللغة الفصيحة ، وحكى أبو عبيدة : مسسته بالفتح أمسه بالضم ، وربما قالوا أمست الشيء يحذفون منه السين الأولى ويحولون كسرتها إلى الميم ، ومنهم لا يحول ويترك الميم على حالها مفتوحة ، وهو مثل قوله فظلتم تفكهون بكسر الظاء وتفتح ، وأصله ظللتم ، وهو من شواذ التخفيف ، ويجوز فيه ثلاثة أوجه من حيث القاعدة : فتح السين لخفة الفتحة ، وكسرها ; لأن الساكن إذا حرك حرك بالكسر ، وفك الإدغام على ما عرف في موضعه ، قوله : « ولا يتمسح " أي : ولا يستنجي ، وهو من باب التفعل ، أشار به إلى أنه لا يتكلف المسح باليمين ; لأن باب التفعل للتكلف غالبا .

                                                                                                                                                                                  ( بيان الإعراب ) .

                                                                                                                                                                                  قوله : « فلا يتنفس " بجزم السين ; لأنه صيغة النهي ، وكذا قوله : « فلا يمس " و"لا يتمسح" ، وروي بالضم في هذه الألفاظ الثلاثة على صيغة النفي ، والفاء في قوله : « فلا يتنفس " و"فلا يمس" جواب الشرط ، وقوله : « ولا يتمسح " بالواو عطف على قوله : « فلا يمس " وإنما لم يظهر الجزم في "فلا يمس" لأجل الإدغام ، وعند الفك يظهر الجزم تقول : فلا يمسس .

                                                                                                                                                                                  ( بيان المعاني ) .

                                                                                                                                                                                  قوله : « فلا يتنفس " قد ذكرنا أنه نهي ، ويحتمل النفي ، وعلى كل تقدير هو نهي أدب ، وذلك أنه إذا فعل ذلك لم يأمن أن يبرز من فيه الريق فيخالط الماء فيعافه الشارب ، وربما يروح بنكهة المتنفس إذا كانت فاسدة ، والماء للطفه ورقة طبعه تسرع إليه الروائح ، ثم إنه يعد من فعل الدواب إذا كرعت في الأواني جرعت ، ثم تنفست فيها ، ثم عادت فشربت ، وإنما السنة أن يشرب الماء في ثلاثة أنفاس ، كلما شرب نفسا من الإناء نحاه عن فمه ، ثم عاد مصا له غير عب إلى أن يأخذ ريه منه ، والتنفس خارج الإناء أحسن في الأدب وأبعد عن الشره ، وأخف للمعدة ، وإذا تنفس فيه تكاثر الماء في حلقه وأثقل معدته ، وربما شرق وأذى كبده ، وهو فعل البهائم ، وقد قيل : إن في القلب بابين يدخل النفس من أحدهما ويخرج من الآخر ، فيبقى ما على القلب من هم أو قذى ، ولذلك لو احتبس النفس ساعة هلك الآدمي ، ويخشى من كثرة التنفس في الإناء أن يصحبه شيء مما في القلب فيقع في الماء ، ثم يشربه فيتأذى به ، وقيل : علة الكراهة أن كل عبة شربة مستأنفة ، فيستحب الذكر في أولها والحمد في آخرها ; فإذا وصل ، ولم يفصل بينهما فقد أخل بعدة سنن .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : لم يبين في الحديث عدد التنفس خارج الإناء ، غاية ما في الباب أنه نهى عن التنفس فيها . قلت : قد بينه في الحديث الآخر بالتثليث ، وقد اختلف العلماء في أي هذه الأنفاس الثلاثة أطول ، على قولين ; أحدهما : الأول ، والثاني : أن الأول أقصر ، والثاني أزيد منه ، والثالث أزيد منهما ، فيجمع بين السنة والطب ; لأنه إذا شرب قليلا قليلا وصل إلى جوفه من غير إزعاج ، ولهذا جاء في الحديث "مصوا الماء مصا ولا تعبوه عبا فإنه أهنأ وأمرأ وأبرأ" .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : قد صح عن أنس رضي الله عنه أن النبي - عليه الصلاة والسلام - كان يتنفس في الإناء ثلاثا . قلت : المعنى يتنفس في مدة شربه عند إبانة القدح عن الفم لا التنفس في الإناء لا سيما مع قوله : « هو أهنأ وأمرأ وأبرأ " أو فعله بيانا للجواز أو النهي خاص بغيره ; لأن ما يتقذر من غيره يستطاب منه .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : هل الحكم مقصور على الماء أم غيره من الأشربة مثله ؟ قلت : النهي المذكور غير مختص بشرب الماء ; بل غيره مثله ، وكذلك الطعام مثله ، فكره النفخ فيه ، والتنفس في معنى النفخ ، وفي جامع الترمذي مصححا عن أبي سعيد الخدري " أنه - صلى الله عليه وسلم - نهى عن النفخ في الشراب فقال رجل : القذاة أراها في الإناء ، قال : أهرقها ، قال : فإني لا أروى من نفس واحد ، قال : فأبن القدح إذا عن فيك " .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : ما الدليل على العموم ؟ قلت : حذف المفعول في قوله : « وإذا شرب " وذلك لأن حذف [ ص: 296 ] المفعول ينبئ عن العموم ، قوله : « فلا يمس ذكره بيمينه " النهي فيه تنزيه لها عن مباشرة العضو الذي يكون فيه الأذى والحدث ، وكان النبي - صلى الله عليه وسلم - يجعل يمناه لطعامه وشرابه ولباسه مصونة عن مباشرة الثفل ومماسة الأعضاء التي هي مجاري الأثفال والنجاسات ، ويسراه لخدمة أسافل بدنه وإماطة ما هناك من القاذورات وتنظيف ما يحدث فيها من الأدناس .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : الحديث يقتضي النهي عن مس الذكر باليمين حالة البول ، وكيف الحكم في غير هذه الحالة ؟ قلت : روى أبو داود بسند صحيح من حديث عائشة رضي الله عنها قالت : " كانت يد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اليمنى لطهوره وطعامه ، وكانت يده اليسرى لخلائه وما كان من أذى" ، وأخرجه بقية الجماعة أيضا ، وروى أيضا من حديث حفصة زوج النبي - عليه الصلاة والسلام - قالت : "كان يجعل يمينه لطعامه وشرابه ولباسه ويجعل شماله لما سوى ذلك" ، وظاهر هذا يدل على عموم الحكم على أنه قد روي النهي عن مسه باليمين مطلقا غير مقيد بحالة البول ، فمن الناس من أخذ بهذا المطلق ، ومنهم من حمله على الخاص بعد أن ينظر في الروايتين ، هل هما حديثان أو حديث واحد ; فإن كانا حديثا واحدا مخرجه واحد واختلفت فيه الرواة ، فينبغي حمل المطلق على المقيد ; لأنها تكون زيادة من عدل في حديث واحد ، فتقبل ، وإن كانا حديثين فالأمر في حكم الإطلاق والتقييد على ما ذكر .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : النهي فيه تنزيه أو تحريم . قلت : للتنزيه عند الجمهور ; لأن النهي فيه لمعنيين أحدهما : لرفع قدر اليمين ، والآخر : أنه لو باشر النجاسة بها يتذكر عند تناوله الطعام ما باشرت يمينه من النجاسة ، فينفر طبعه من ذلك ، وحمله أهل الظاهر على التحريم ، حتى قال الحسين بن عبد الله الناصري في كتابه البرهان على مذهب أهل الظاهر : ولو استنجى بيمينه لا يجزيه ، وهو وجه عند الحنابلة وطائفة من الشافعية .

                                                                                                                                                                                  قوله : « ولا يتمسح بيمينه " النهي فيه للتنزيه عند الجمهور خلافا للظاهرية ، كما ذكرنا ، وقد أورد الخطابي ها هنا إشكالا ، وهو أنه متى استجمر بيساره استلزم مس ذكره بيمينه ومتى مسه بيساره استلزم استجماره بيمينه ، وكلاهما قد شمله النهي ، ثم أجاب عن ذلك بقوله : إنه يقصد الأشياء الضخمة التي لا تزول بالحركة كالجدار ونحوه من الأشياء البارزة فيستجمر بها بيساره ; فإن لم يجد فليلصق مقعدته بالأرض ويمسك ما يستجمر به بين عقبيه أو إبهامي رجليه ويستجمر بيساره ، فلا يكون متصرفا في شيء من ذلك بيمينه ، وقال الطيبي : النهي عن الاستنجاء باليمين مختص بالدبر ، والنهي عن المس مختص بالذكر ، فلا إشكال فيه . قلت : قوله عليه الصلاة والسلام في الحديث الآتي "ولا يستنجي بيمينه" يرد عليه في دعواه الاختصاص على ما لا يخفى .

                                                                                                                                                                                  وقال بعضهم : الذي ذكره الخطابي هيئة منكرة ; بل قد يتعذر فعلها في غالب الأوقات ، والصواب ما قاله إمام الحرمين ، ومن بعده كالغزالي في الوسيط ، والبغوي في التهذيب أنه يمر العضو بيساره على شيء يمسكه بيمينه ، وهي قارة غير متحركة ، فلا يعد مستجمرا باليمين ولا ماسا بها ، فهو كمن صب الماء بيمينه على يساره حالة الاستنجاء .

                                                                                                                                                                                  قلت : دعواه بأن هذه هيئة منكرة فاسدة ; لأن الاستجمار بالجدار ونحوه غير بشيع ، وهذا ظاهر وتصويبه ما قاله هؤلاء إنما يمشي في استجمار الذكر ، وأما في الدبر فلا على ما لا يخفى .

                                                                                                                                                                                  ( بيان استنباط الأحكام ) :

                                                                                                                                                                                  الأول : كراهة التنفس في الإناء ، وقد ذكرناه مفصلا .

                                                                                                                                                                                  الثاني : فيه جواز الشرب من نفس واحد ; لأنه إنما نهى عن التنفس في الإناء والذي شرب في نفس واحد لم يتنفس فيه ، فلا يكون مخالفا للنهي وكرهه جماعة ، وقالوا هو شرب الشيطان ، وفي الترمذي محسنا من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما مرفوعا " لا تشربوا واحدا كشرب البعير ولكن اشربوا مثنى وثلاث ، وسموا إذا أنتم شربتم ، واحمدوا إذا أنتم رفعتم " .

                                                                                                                                                                                  الثالث : فيه النهي عن مس الذكر باليمين .

                                                                                                                                                                                  الرابع : فيه النهي عن الاستنجاء باليمين .

                                                                                                                                                                                  الخامس : فيه فضل الميامن . والله أعلم بالصواب .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية