الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  76 18 - حدثنا إسماعيل بن أبي أويس قال : حدثني مالك عن ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن عبد الله بن عباس قال : أقبلت راكبا على حمار أتان وأنا يومئذ قد ناهزت الاحتلام ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بمنى إلى غير جدار ، فمررت بين يدي بعض الصف وأرسلت الأتان ترتع ، فدخلت في الصف فلم ينكر ذلك علي .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقة الحديث للترجمة من حيث إن العلماء جوزوا المرور بين يدي المصلي إذا لم يكن سترة برواية ابن عباس هذه ، وابن عباس تحمل هذا في حالة الصبي ، فعلم منه قبول سماع الصبي إذا أداه بعد البلوغ ، فإن قلت : الترجمة في سماع الصغير ، وليس في هذا الحديث سماع الصبي ، قلت : المقصود من السماع هو وما يقوم مقامه لتقرير الرسول عليه السلام في مسألتنا لمروره ، فإن قلت : عقد الباب على الصبي الصغير أو الصغير فقط على اختلاف الرواية ، والمناهز للاحتلام ليس صغيرا ، فما وجه المطابقة ؟ قلت : المراد من الصغير غير البالغ وذكره مع الصبي من باب التوضيح والبيان .

                                                                                                                                                                                  بيان رجاله : وهم خمسة كلهم قد ذكروا ، وإسماعيل هو ابن عبد الله المشهور بابن أبي أويس ابن أخت مالك ، وابن شهاب هو محمد بن مسلم الزهري ، وعتبة بضم العين المهملة وسكون التاء المثناة من فوق وفتح الباء الموحدة .

                                                                                                                                                                                  بيان لطائف إسناده : منها أن فيه التحديث بصيغة الجمع وصيغة الإفراد والعنعنة ، ومنها أن رواته كلهم مدنيون ، ومنها أن فيه رواية التابعي عن التابعي .

                                                                                                                                                                                  بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره : أخرجه البخاري هنا عن إسماعيل ، وفي الصلاة عن عبد الله بن يوسف والقعنبي ، ثلاثتهم عن مالك ، وفي الحج عن إسحاق عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد ، عن ابن أخي ابن شهاب ، وفي المغازي ، وقال الليث : حدثني يونس ، وأخرجه مسلم في الصلاة عن يحيى بن يحيى عن مالك ، وعن يحيى بن يحيى وعمرو الناقد وإسحاق بن إبراهيم ، ثلاثتهم عن سفيان بن عيينة وعن حرملة بن يحيى ، عن ابن وهب ، عن يونس ، وعن إسحاق بن إبراهيم ، وعن عبد بن حميد ، كلاهما عند عبد الرزاق عن معمر ، خمستهم عنه به ، وأخرجه أبو داود فيه عن عثمان بن أبي شيبة عن سفيان به ، وأخرجه الترمذي فيه عن محمد بن المالك أبي الشوارب عن يزيد بن زريع عن معمر نحوه ، وأخرجه النسائي فيه عن محمد بن منصور عن سفيان به ، وفي العلم عن محمد بن سلمة عن ابن القاسم عن مالك به ، وأخرجه ابن ماجه في الصلاة عن هشام بن عمار عن سفيان به .

                                                                                                                                                                                  بيان اللغات : قوله " على حمار " قال في العباب : الحمار العير والجمع حمير وحمر وحمر وحمرات وأحمرة ومحمور ، والحمارة الأتان والحمارة أيضا الفرس الهجين ، وهي بالفارسية يالاني ، واليحمور حمار الوحش ، قوله " أتان " بفتح الهمزة وبالتاء المثناة من فوق ، وفي آخره نون وهي الأنثى من الحمر ، وقد يقال بكسر الهمزة ، حكاه الصغاني في شوارده ، [ ص: 69 ] ولا يقال أتانة ، وحكى يونس وغيره أتانة ، وقال الجوهري : الأتان الحمارة ، ولا يقال أتانة وثلاث أتن مثل عناق وأعنق ، والكثير أتن وآتن والمأتونا الأتن مثل المعبورا ، قوله " ناهزت الاحتلام " أي قاربت ، يقال ناهز الصبي البلوغ إذا قاربه وداناه ، قال صاحب الأفعال : ناهز الصبي الفطام دنا منه ، ونهز الشيء أي قرب ، وقال شمر : المناهزة المبادرة ، فقيل للأسد نهز لأنه يبادر ما يفترسه ، والنهزة بالضم الفرصة ، ونهزت الشيء دفعته ، ونهزت إليه نهضت إليه ، والاحتلام البلوغ الشرعي وهو مشتق من الحلم بالضم ، وهو ما يراه النائم ، قوله " بمنى " مقصور ، موضع بمكة تذبح فيه الهدايا وترمى فيه الجمرات ، قال الجوهري : مذكر مصروف ، قلت : لأنه علم للمكان ، فلم يوجد فيه شرط المنع ، وقال النووي : فيه لغتان الصرف والمنع ، ولهذا يكتب بالألف والياء ، والأجود صرفها وكتابتها بالألف ، سميت بها لما يمنى بها من الدماء أي تراق ، قوله " ترتع " بتاءين مثناتين من فوق مفتوحتين وضم العين أي تأكل ما تشاء من رتعت الماشية ترتع رتوعا ، وقيل تسرع في المشي ، وجاء أيضا بكسر العين على وزن تفتعل من الرعي ، وأصله ترتعي ، ولكن حذفت الياء تخفيفا ، والأول أصوب ، ويدل عليه رواية البخاري في الحج : نزلت عنها فرتعت .

                                                                                                                                                                                  بيان الإعراب : قوله " أقبلت " جملة من الفعل والفاعل ، قوله " راكبا " نصب على الحال ، وعلى حمار يتعلق به ، قوله " أتان " صفة للحمار أو بدل منه ، فإن قلت : من أي قسم من أقسام البدل ، قلت : قيل إنه بدل غلط ، وقال القاضي : وعندي أنه بدل البعض من الكل إذ قد يطلق الحمار على الجنس فيشمل الذكر والأنثى كما قالوا بعير ، وقالالنووي والقرطبي وغيرهما أيضا : إن الحمار اسم جنس للذكر والأنثى كلفظة الشاة والإنسان ، وقال الشيخ قطب الدين في بعض طرقه " على حمار " أراد به الجنس ولم يرد الذكورة ، وفي بعضها " أتان " وجمع البخاري بينهما فقال : " على حمار أتان " وقال القاضي : وجاء في البخاري " على حمار أتان " بالتنوين فيهما إما على البدل أو الوصف ، وقد ذكرناه ، وروي " على حمار أتان " بالإضافة ، أي حمار أنثى كفحل أتن ، وقال ابن الأثير : إنما استدرك الحمارة بالأنثى ليعلم أن الأنثى من الحمر لا تقطع الصلاة ، فكذلك لا تقطعها المرأة ، وقال الكرماني : فإن قلت : لم قال على حمارة فيستغني عن لفظ أتان ؟ قلت : لأن التاء في حمارة يحتمل أن تكون للوحدة وللتأنيث فلا تكون نصا في الأنوثة ، قلت : هنا قرينة تدل على ترجيح المراد بأنوثته فلا يقع الجواب موقعه ، والأحسن أن يقال في الجواب : إن الحمارة قد تطلق على الفرس الهجين كما نقلناه عن الصغاني عن قريب ، فلو قال على حمارة ربما كان يفهم أنه أقبل على فرس هجين ، وليس الأمر كذلك على أن الجوهري حكى أن الحمارة في الأنثى شاذ ، قوله : " وأنا يومئذ " الواو فيه للحال و " أنا " مبتدأ وخبره قوله " قد ناهزت الاحتلام " قوله " ورسول الله " صلى الله عليه وسلم ، الواو فيه للحال وهو مبتدأ وخبره قوله " يصلي " قوله " بمنى " نصب على الظرف ، قوله " إلى غير جدار " في محل النصب على الحال ، وفيه حذف تقديره يصلي غير متوجه إلى جدار ، قوله " وأرسلت " عطف على مررت و " الأتان " بالنصب مفعوله ، قوله " ترتع " جملة في محل النصب على الحال من الأحوال المقدرة والتقدير مقدرا رتوعها ، قوله " ودخلت " بالواو عطف على " أرسلت " وفي رواية الكشميهني " فدخلت " بالفاء التي للتعقيب ، قوله " فلم ينكر " على صيغة المعلوم ، أي فلم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك علي ، وروي بلفظ المجهول أي لم ينكر أحد لا رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا غيره ممن كانوا معه .

                                                                                                                                                                                  بيان المعاني : قوله " أقبلت راكبا على حمار " وزاد البخاري فيه في الحج " أقبلت أسير على أتان حتى صرت بين يدي الصف ثم نزلت عنها " ولمسلم " فسار الحمار بين يدي بعض الصف " قوله “ إلى غير جدار " يعني إلى غير سترة ، فإن قلت لفظة إلى غير جدار لا ينفي شيئا غيره ، فكيف يفسر بغير سترة ؟ قلت : إخبار ابن عباس عن مروره بالقوم وعن عدم جدار مع أنهم لم ينكروا عليه وأنه مظنة إنكار يدل على حدوث أمر لم يعهد قبل ذلك من كون المرور مع السترة غير منكر ، فلو فرض سترة أخرى غير الجدار لم يكن لهذا الإخبار فائدة ، قوله “ بين يدي بعض الصف " هو مجاز عن القدام لأن الصف لا يد له ، وبعض الصف يحتمل أن يكون المراد به صف من الصفوف أو بعض من الصف الواحد ، يعني المراد به إما جزء من الصف وإما جزئي منه ، قوله “ ناهزت الاحتلام " قال الشيخ تقي الدين : فيه معنى يقتضي تأكيد الحكم وهو عدم بطلان الصلاة بمرور الحمار ; لأنه استدل على ذلك بعدم الإنكار وعدم الإنكار على من هو في مثل هذا السن أدل على هذا الحكم ، فإنه لو كان في سن عدم التمييز لاحتمل أن يكون عدم الإنكار عليه لعدم مؤاخذته لصغر سنه ، فعدم الإنكار دليل على جواز المرور [ ص: 70 ] والجواز دليل على عدم إفساد الصلاة ، وقال عياض : وقوله " ناهزت الاحتلام " يصحح قول الواقدي : إن النبي صلى الله عليه وسلم توفي وابن عباس ابن ثلاث عشرة سنة ، وقول الزبير بن بكار : إنه ولد في الشعب قبل الهجرة بثلاث سنين ، وما روي عن سعيد بن جبير عنه : توفي النبي عليه الصلاة والسلام وأنا ابن خمس عشرة سنة ، قال أحمد : هذا هو الصواب وهو يرد رواية من يروي عنه أنه قال : توفي النبي عليه الصلاة والسلام وأنا ابن عشر سنين ، وقد يتأول إن صح على أن معناه راجع إلى ما بعده ، وهو قوله : وقد قرأت المحكم .

                                                                                                                                                                                  بيان استنباط الأحكام : الأول : فيه جواز سماع الصغير وضبطه السنن ، والتحمل لا يشترط فيه كمال الأهلية ، وإنما يشترط عند الأداء ويلتحق بالصبي في ذلك العبد والفاسق والكافر ، وقامت حكاية ابن عباس لفعل النبي صلى الله عليه وسلم وتقريره مقام حكاية قوله .

                                                                                                                                                                                  الثاني : فيه إجازة من علم الشيء صغيرا وأداه كبيرا ولا خلاف فيه ، وأخطأ من حكى فيه خلافا ، وكذا الفاسق والكافر إذا أديا حال الكمال .

                                                                                                                                                                                  الثالث : فيه احتمال بعض المفاسد لمصلحة أرجح منها ، فإن المرور أمام المصلين مفسدة ، والدخول في الصلاة وفي الصف مصلحة راجحة ، فاغتفرت المفسدة للمصلحة الراجحة من غير إنكار .

                                                                                                                                                                                  الرابع : فيه جواز الركوب إلى صلاة الجماعة .

                                                                                                                                                                                  الخامس : قال المهلب : فيه أن التقدم إلى القعود لسماع الخطبة إذا لم يضر أحدا والخطيب يخطب جائز بخلاف ما إذا تخطى رقابهم .

                                                                                                                                                                                  السادس : أن مرور الحمار لا يقطع الصلاة ، وعليه بوب أبو داود في سننه ، وما ورد من قطع ذلك محمول على قطع الخشوع .

                                                                                                                                                                                  السابع : فيه صحة صلاة الصبي .

                                                                                                                                                                                  الثامن : فيه أنه إذا فعل بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم شيء ولم ينكره فهو حجة .

                                                                                                                                                                                  التاسع : جواز إرسال الدابة من غير حافظ أو مع حافظ غير مكلف .

                                                                                                                                                                                  العاشر : قال ابن بطال وأبو عمر والقاضي عياض : فيه دليل على أن سترة الإمام سترة لمن خلفه ، وكذا بوب عليه البخاري ، وحكى ابن بطال وأبو عمر فيه الإجماع ، قالا : وقد قيل الإمام نفسه سترة لمن خلفه ، وأما وجه الدلالة فقال عياض : قوله فلم ينكر ذلك أحد لأنه إن كان النبي صلى الله عليه وسلم رآه ، وهو الظاهر لقوله بين يدي الصف فهو حجة لتقريره وإن كان بموضع لم يره فقد رآه أصحابه بجملتهم فلم ينكروه ولا أحد منهم ، فدل على أنه ليس عندهم بمنكر ، وقال غيره : يحتمل أن لفظة أحد تشمل النبي صلى الله عليه وسلم وغيره لما فيها من العموم ، لكنه ضعيف بأنه لا معنى لعدم إنكار غير النبي صلى الله عليه وسلم مع حضوره صلى الله عليه وسلم وعدم إنكاره أيضا ، فيجوز أن يكون الصف ممتدا فلا يراه النبي صلى الله عليه وسلم ولهذا إن ابن عباس ذكر الرائين ولم يذكر النبي صلى الله عليه وسلم احترازا منه ، قلت : فعلى هذا لا يكون من باب المرفوع قطعا بل مما يتوجه فيه الخلاف ، ويحتمل كما قالوا في شبهه ، وقال أبو عمر : حديث ابن عباس رضي الله عنهما هذا يخص بحديث ابن سعيد الخدري رضي الله عنه يرفعه " إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحدا يمر بين يديه " قال : فحديث أبي سعيد هذا يحمل على الإمام والمنفرد ، فأما المأموم فلا يضره من مر بين يديه لحديث ابن عباس هذا ، قال : وهذا كله لا خلاف فيه بين العلماء ، ومما يوضحه حديث ابن عمر رضي الله عنهما " أن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بهم الظهر أو العصر ، فجاءت بهيمة تمر بين يديه فجعل يدرؤها حتى رأيته ألصق منكبيه بالجدار فمرت من خلفه " قلت : أخرجه أبو داود من أوله " كان يصلي إلى جدر " وفيه " حتى ألصق بطنه بالجدر " وبوب عليه باب سترة الإمام سترة لمن خلفه ، قال : والمرور بين يدي المصلي مكروه إذا كان إماما أو منفردا أو مصليا إلى سترة ، وأشد منه أن يدخل المار بين السترة وبينه ، وأما المأموم فلا يضره من مر بين يديه ، كما أن الإمام أو المنفرد لا يضر واحد منهما ما مر من وراء سترته ; لأن سترة الإمام سترة لمن خلفه ، وقد قيل : إن الإمام نفسه سترة لمن خلفه ، قال : وهذا كله إجماع لا خلاف فيه ، وقال ابن بطال : اختلف أصحاب مالك فيمن صلى إلى غير سترة في فضاء يأمن أن يمر أحد بين يديه ، فقال ابن القاسم : يجوز ولا حرج عليه ، وقال ابن الماجشون ومطرف : السنة أن يصلي إلى سترة مطلقا ، قال : وحديث ابن عباس يشهد لصحة قول ابن القاسم ، وهو قول عطاء وسالم وعروة والقاسم والشعبي والحسن ، وكانوا يصلون في الفضاء إلى غير سترة ، وسيأتي بسط الكلام فيه في موضعه إن شاء الله تعالى .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية