الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  77 19 - حدثني محمد بن يوسف ، قال : حدثنا أبو مسهر ، قال : حدثني محمد بن حرب ، حدثني [ ص: 71 ] الزبيدي ، عن الزهري ، عن محمود بن الربيع ، قال : عقلت من النبي صلى الله عليه وسلم مجة مجها في وجهي وأنا ابن خمس سنين من دلو .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقة الحديث للترجمة من حيث استدلالهم به على إباحة مج الريق على الوجه إذا كان فيه مصلحة ، وعلى طهارته وغير ذلك ، وليس ذلك إلا لاعتبارهم نقل محمود بن الربيع ، فدل على أن سماع الصغير صحيح والترجمة فيه ، بل مطابقة هذا الحديث للترجمة أشد من حديث ابن عباس ، فإن من ناهز الاحتلام لا يسمى صغيرا عرفا ، ومحمود بن الربيع أخبر بذلك وعمره خمس سنين .

                                                                                                                                                                                  بيان رجاله : وهم ستة ، الأول : محمد بن يوسف البيكندي أبو أحمد ، نص عليه البيهقي وغيره ; وذلك لأن محمد بن يوسف الفريابي ليس له رواية عن أبي مسهر .

                                                                                                                                                                                  الثاني : أبو مسهر بضم الميم وسكون السين المهملة وكسر الهاء وبالراء ، واسمه عبد الأعلى أبو مسهر الغساني الدمشقي ، قيل : ما رؤي أحد في كورة من الكور أعظم قدرا ولا أجل عند أهلها من أبي مسهر بدمشق ، وكان إذا خرج إلى المسجد اصطف الناس يسلمون عليه ويقبلون يده ، وحمله المأمون إلى بغداد في أيام المحنة ، فجرد للقتل على أن يقول بخلق القرآن ، ومد رأسه إلى السيف ، فلما رأوا ذلك منه حمل إلى السجن ، فمات ببغداد سنة ثمان عشرة ومائتين ، ودفن بباب التين ، وقد لقيه البخاري وسمع منه شيئا كثيرا ، وحدث هنا بواسطة ، وذكر ابن المرابط فيما نقله ابن رشيد عنه أن أبا مسهر تفرد برواية هذا الحديث ، وليس كما قال ; فإن النسائي رواه في سننه الكبرى عن محمد بن المصفى عن محمد بن حرب ، وأخرجه البيهقي في المدخل من رواية ابن جوصا ، بفتح الجيم والصاد المهملة عن سلمة بن الخليل ، وابن التقي بفتح التاء المثناة من فوق وكسر القاف ، كلاهما عن محمد بن حرب ، فهؤلاء ثلاثة غير أبي مسهر رووه عن محمد بن حرب فكأنه المنفرد به عن الزبيدي .

                                                                                                                                                                                  الثالث : محمد بن حرب ، بفتح الحاء وسكون الراء المهملتين وفي آخره باء موحدة ، هو الأبرش أي الذي يكون فيه نكت صغار يخالف سائر لونه ، الخولاني الحمصي أبو عبد الله ، سمع الأوزاعي وغيره وتقضى بدمشق ، وهو ثقة ، مات سنة أربع وسبعين ومائة ، روى له الجماعة .

                                                                                                                                                                                  الرابع : أبو الهذيل محمد بن الوليد بن عامر الزبيدي الشامي الحمصي ، قاضيها الثقة الكبير المفتي الكبير ، روى عن مكحول والزهري وغيرهما ، وعنه محمد بن حرب ، ويحيى بن حمزة ، وهو أثبت أصحاب الزهري ، مات بالشام سنة سبع وقيل ثمان وأربعين ومائة وهو شاب ، قاله أحمد بن محمد بن عيسى البغدادي ، وقال ابن سعد : ابن سبعين سنة ، روى له الجماعة سوى الترمذي .

                                                                                                                                                                                  الخامس : محمد بن مسلم الزهري .

                                                                                                                                                                                  السادس : محمود بن الربيع بن سراقة بن عمرو بن زيد بن عبدة بن عامر بن عدي بن كعب بن الخزرج بن الحارث بن الخزرج الأنصاري الخزرجي أبو نعيم ، وقيل أبو محمد ، مدني ، مات سنة تسع وتسعين عن ثلاث وتسعين ، وهو ختن عبادة بن الصامت ، نزل بيت المقدس ومات بها .

                                                                                                                                                                                  بيان الأنساب : الغساني نسبة إلى غسان ، ماء بالمشلل قريب من الجحفة ، والذين شربوا منه تسموا به ، وهم من ولد مازن بن الأزد ، فإن مازن جماع غسان ، فمن نزل من بنيه ذلك الماء فهو غسان ، وذكر الرشاطي الغساني في الأزد ، وقال ابن هشام : نسبوا إلى ماء بسد مأرب كان شربا لولد مازن فسموا به .

                                                                                                                                                                                  الخولاني في قبائل ، حكى الهمداني في كتاب الإكليل ، قال خولان بن عمرو بن الحاف بن قضاعة وخولان بن عمرو بن مالك بن الحارث بن مرة بن أدد ، قال : وخولان حضور وخولان ردع هو خولان بن قحطان ، وقال ابن قتيبة في كتاب المعارف : وخولان بن سعد بن مذحج .

                                                                                                                                                                                  الزبيدي بضم الزاي المعجمة وفتح الباء الموحدة وسكون الياء آخر الحروف والدال المهملة ، نسبة إلى زبيد قبيلة من مذحج بفتح الميم وسكون الذال المعجمة ، وذكر الرشاطي الزبيدي في قبائل مذحج وغيرها ، فالذي في مذحج زبيد واسمه منبه الأكبر بن صعب بن سعد العشيرة بن مالك ، ومالك هو جماع مذحج ، قال ابن دريد : زبيد تصغير زبد ، والزبد العطية زبدته أزبده زبدا ، وفي الأزد زبيد بطن ، وهو زبيد بن عامر بن عمرو بن كعب بن الحارث الغطريف الأصغر بن عبد الله بن عامر الغطريف الأكبر بن بكر بن يشكر بن بشير بن كعب بن دهمان بن نصر بن زهران بن كعب بن الحارث بن كعب بن عبد الله بن مالك بن نصر بن الأزد ، وفي خولان القضاعية زبيد بطن ابن الخيار بن زياد بن سليمان بن الناجش بن حرب بن سعد بن خولان .

                                                                                                                                                                                  بيان لطائف إسناده : منها أن فيه التحديث بصيغة الجمع وصيغة الإفراد والعنعنة ، ومنها أن رواته إلى الزهري شاميون [ ص: 72 ] ومنها أن هذا الحديث من أفراد البخاري عن مسلم .

                                                                                                                                                                                  بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره : أخرجه البخاري أيضا في الطهارة عن علي بن عبد الله عن يعقوب بن إبراهيم بن سعد عن أبيه ، عن صالح بن كيسان ، عن الزهري به ، وفي الدعوات عن عبد العزيز بن عبد الله ، عن إبراهيم بن سعد به ، وأخرجه النسائي في العلم عن محمد بن مصفى ، عن محمد بن حرب به ، وفي اليوم والليلة عن سويد بن نصر ، عن ابن المبارك ، عن معمر ، عن الزهري نحوه ولم يذكر " وأنا ابن خمس سنين " وأخرجه ابن ماجه في الطهارة عن أبي مروان محمد بن عثمان العثماني عن إبراهيم بن سعد به .

                                                                                                                                                                                  بيان اللغات : قوله " عقلت " أي عرفت ، ويقال : معناه حفظت من عقل يعقل من باب ضرب يضرب عقلا ومعقولا ، وهو مصدر ، وقال سيبويه : هو صفة ، وكان يقول : إن المصدر لا يتأتى على وزن مفعول البتة ، قوله “ مجة " يقال مج الشراب من فيه إذا رمى به ، وقال أهل اللغة : المج إرسال الماء من الفم مع نفخ ، وقيل لا يكون مجا حتى تباعد به ، وكذلك مج لعابه ، والمجاجة والمجاج : الريق الذي تمجه من فيك ، ومجاجة الشيء أيضا عصارته ، ويقال : إن المطر مجاج المزن ، والعسل مجاج النحل ، والمجاج أيضا اللبن ; لأن الضرع يمجه ، والتركيب يدل على رمي الشيء بسرعة .

                                                                                                                                                                                  بيان الإعراب : قوله " عقلت " جملة من الفعل والفاعل مقول القول ، قوله “ مجة " بالنصب ، مفعوله قوله “ مجها " جملة من الفعل والفاعل والمفعول في محل النصب على أنها صفة لمجة والضمير فيها يرجع إلى المجة ، قوله “ في وجهي " حال من مجه ، قوله “ من دلو " أي من ماء دلو ، والدلو يذكر ويؤنث ، وقوله " وأنا ابن خمس سنين “ جملة اسمية من المبتدأ والخبر معترضة ، وقعت حالا إما من تاء عقلت أو من ياء وجهي .

                                                                                                                                                                                  بيان المعاني : قوله " وأنا ابن خمس سنين " قد ذكرنا أن المتأخرين قد حددوا أقل سن التحمل بخمس سنين ، وقال ابن رشيد : الظاهر أنهم أرادوا بتحديد الخمس أنها مظنة لذلك لا أن بلوغها شرط لا بد من تحققه ، وليس في الصحيحين ولا في غيرهما من الجوامع والمسانيد التقييد بالسن عند التحمل في شيء من طرقه إلا في طريق الزبيدي هذه ، وهو من كبار الحفاظ المتقنين عن الزهري ، ووقع في رواية الطبراني والخطيب في الكفاية من طريق عبد الرحمن بن نمر بفتح النون وكسر الميم عن الزهري ، قال : حدثني محمود بن الربيع ، وتوفي النبي عليه الصلاة والسلام وهو ابن خمس سنين ، واستفيد من هذه الرواية أن الواقعة التي ضبطها كانت في آخر سنة من حياة النبي عليه الصلاة والسلام ، وقد ذكر ابن حبان وغيره أنه مات سنة تسع وتسعين وهو ابن أربع وتسعين سنة ، وهو مطابق لهذه الرواية ، وذكر عياض في الإلماع وغيره أن في بعض الروايات أنه كان ابن أربع سنين ، وليس في الروايات شيء يصرح بذلك ، فكأن ذلك أخذ من قول ابن عمر أنه عقل المجة وهو ابن أربع سنين أوخمس ، وكأن الحامل له على هذا التردد قول الواقدي إنه كان ابن ثلاث وتسعين سنة لما مات ، والأول أصح ، قوله “ من دلو " وفي رواية النسائي " من دلو معلق " وفي الرقاق من رواية معمر " من دلو كانت في دارهم " وفي الطهارة والصلاة وغيرهما " من بئر " بدل " دلو " ولا تعارض بينهما لأنه يتأول بأن الماء أخذ بالدلو من البئر وتناوله النبي عليه الصلاة والسلام من الدلو .

                                                                                                                                                                                  بيان استنباط الأحكام : الأول فيه بركة النبي عليه الصلاة والسلام كما جاء من أنه يحنك الصبيان بأن يأخذ التمرة يمضغها ويجعلها في فم الصبي وحنك بها حنكه بالسبابة حتى تحللت في حلقه ، وكانت الصحابة رضي الله عنهم يحرصون على ذلك إرادة بركته عليه الصلاة والسلام لأولادهم كما رأوا بركته في المحسوسات والأجرام من تكثير الماء بمجه في فرلادين وفي بئر الحديبية .

                                                                                                                                                                                  الثاني : فيه جواز سماع الصغير وضبطه بالسنن .

                                                                                                                                                                                  الثالث : قال التيمي : فيه جواز مداعبة الصبي إذ داعبه النبي عليه الصلاة والسلام فأخذ ماء من الدلو فمجه في وجهه .

                                                                                                                                                                                  فائدة تعقب ابن أبي صفرة على البخاري من ذكره حديث محمود بن الربيع في اعتبار خمس سنين وإعقاله حديث عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أنه رأى أباه يختلف إلى بني قريظة في يوم الخندق ويراجعهم ، ففيه السماع منه وكان سنه إذ ذاك ثلاث سنين أو أربع فهو أصغر من محمود ، وليس في قصة محمود ضبطه لسماع شيء ، فكان ذكره حديث ابن الزبير أولى لهذين المعنيين ، وأجيب بأن البخاري إنما أراد نقل السنن النبوية لا الأحوال [ ص: 73 ] الوجودية ، ومحمود نقل سنة مقصودة في كون النبي عليه الصلاة والسلام مج مجة في وجهه لإفادته البركة بل في مجرد رؤيته إياه فائدة شرعية يثبت بها كونه صحابيا ، وأما قصة ابن الزبير فليس فيها نقل سنة من السنن النبوية حتى يدخل في هذا الباب ، وقال الزركشي في تنقيحه : ويحتاج المهلب إلى ثبوت أن قضية ابن الزبير صحيحة على شرط البخاري ، قلت : هذا غفلة منه فإن قضية ابن الزبير المذكورة أخرجها البخاري في مناقب الزبير في الصحيح ، والجواب ما ذكرناه ، والله أعلم .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية