الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  وقال أبو ذر : لو وضعتم الصمصامة على هذه - وأشار إلى قفاه - ثم ظننت أني أنفذ كلمة سمعتها من النبي صلى الله عليه وسلم قبل أن تجيزوا علي لأنفذتها .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  هذا التعليق رواه الدارمي موصولا في مسنده من طريق الأوزاعي : حدثني مرثد بن أبي مرثد ، عن أبيه قال : أتيت أبا ذر وهو جالس عند الجمرة الوسطى ، وقد اجتمع الناس عليه يستفتونه ، فأتاه رجل فوقف عليه ثم قال : ألم تنه عن الفتيا ؟ ! فرفع رأسه إليه فقال : أرقيب أنت علي ؟ لو وضعتم ... فذكر مثله ، ورواه أحمد بن منيع عن سليمان بن عبد الرحمن الدمشقي عن الوليد بن مسلم عن الأوزاعي عن مرثد بن أبي مرثد عن أبيه قال : جلست إلى أبي ذر الغفاري رضي الله عنه إذ وقف عليه رجل فقال : ألم ينهك أمير المؤمنين عن الفتيا ؟ فقال أبو ذر : والله لو وضعتم الصمصامة على هذه - وأشار إلى حلقه - على أن أترك كلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنفذتها قبل أن يكون ذلك ! قلت : كان سبب ذلك أن أبا ذر كان بالشام ، واختلف مع معاوية في تأويل قوله تعالى : والذين يكنزون الذهب والفضة - فقال معاوية : نزلت في أهل الكتاب خاصة . وقال أبو ذر : نزلت فينا وفيهم . فكتب معاوية إلى عثمان رضي الله عنه ، فأرسل إلى أبي ذر فحصلت منازعة أدت إلى انتقال أبي ذر عن المدينة ، فسكن الربذة - بفتح الراء والباء الموحدة والذال المعجمة - إلى أن مات ، وقد ذكرناه ، واسمه جندب بن جنادة .

                                                                                                                                                                                  قوله " الصمصامة " ، قال الجوهري : الصمصام والصمصامة السيف الصارم الذي لا ينثني . وأشار بقوله " هذه " إلى القفا ، والقفا - يذكر ويؤنث ، وهو مقصور - مؤخر العنق .

                                                                                                                                                                                  قوله " أنفذ " بضم الهمزة والذال المعجمة ; أي ظننت أني أقدر على إنفاذ كلمة ، أي تبليغها .

                                                                                                                                                                                  قوله " قبل أن تجيزوا " بضم التاء المثناة من فوق وكسر الجيم وبعد الياء زاي معجمة ; أي قبل أن يقطعوا علي ، أراد به قبل أن يقطعوا رأسي . وقال الصغاني : والتركيب يدل على قطع الشيء . قلت : ومنه قوله " حتى أجاز الوادي " ; أي قطعه ، " فأكون أول من يجيز " أي أول من يقطع مسافة الصراط . وقال الكرماني : و" تجيزوا " أي الصمصامة " علي " أي على قفاي . قلت : هو من أجاز الشيء إذا أنفذه ، والصمصامة مفعوله ، وكلمة " علي " ليست صلة لأجل التعدي ، وحاصل المعنى أنه يبلغ ما يحمله في كل حال ولا ينثني عن ذلك ولو عرض عليه القتل أو وضع على قفاه السيف ، وفيه دليل على أن أبا ذر رضي الله عنه كان لا يرى بطاعة الإمام إذا نهاه عن الفتيا ; لأنه كان يرى أن ذلك واجب عليه لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتبليغ عنه ، ولعله أيضا سمع الوعيد في حق من كتم علما يعلمه .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : لو لامتناع الثاني لامتناع الأول على المشهور ، فمعناه انتفى الإنفاذ لانتفاء الوضع ، وليس المعنى عليه - قلت : هو مثل " لو لم يخف الله لم يعصه " ; يعني يكون الحكم ثابتا على تقدير النقيض بالطريق الأولى ، فالمراد أن الإنفاذ حاصل على تقدير الوضع وعلى تقدير عدم الوضع حصوله أولى ، أو أن " لو " ها هنا لمجرد الشرط ; يعني: حكمها حكم إن من [ ص: 43 ] غير ملاحظة الامتناع ، وفيه من الفقه أنه يجوز للعالم أن يأخذ في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالشدة ويتحمل الأذى ويحتسب رجاء ثواب الله تعالى ، ويباح له أن يسكت إذا خاف الأذى كما قال أبو هريرة رضي الله عنه : لو حدثتكم بكل ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم لقطع هذا البلعوم ! وعنه : لو حدثتكم بكل ما في جوفي لرميتموني بالبعر . قال الحسن : صدق - وكأنه أراد ما يتعلق بالفتن مما لا يتعلق بذكره مصلحة شرعية .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية