الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  155 [ ص: 302 ] 22 - حدثنا أبو نعيم قال : حدثنا زهير عن أبي إسحاق قال : ليس أبو عبيدة ذكره ، ولكن عبد الرحمن بن الأسود عن أبيه أنه سمع عبد الله يقول : أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - الغائط فأمرني أن آتيه بثلاثة أحجار ، فوجدت حجرين والتمست الثالث فلم أجده ، فأخذت روثة فأتيته بها ، فأخذ الحجرين ، وألقى الروثة ، وقال : هذا ركس .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقة الحديث للترجمة في قوله : « وألقى الروثة وقال : هذا ركس " لأن إلقاءه إنما كان ; لأنه لا يستنجى به .

                                                                                                                                                                                  ( بيان رجاله ) وهم ستة :

                                                                                                                                                                                  الأول : أبو نعيم ، بضم النون ، الفضل بن دكين ، وقد مر .

                                                                                                                                                                                  الثاني : زهير بن معاوية الجعفي الكوفي ، وقد مر .

                                                                                                                                                                                  الثالث : أبو إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي ، بفتح السين المهملة وكسر الباء الموحدة ، وقد مر في باب الصلاة من الإيمان .

                                                                                                                                                                                  الرابع : عبد الرحمن بن الأسود أبو حفص النخعي ، كوفي عالم عامل ، روى عن أبيه وعائشة ، وعنه الأعمش وغيره ، كان يصلي كل يوم سبعمائة ركعة ، وكان يصلي العشاء والفجر بوضوء واحد ، مات سنة تسع وتسعين ، وفي البخاري أيضا عبد الرحمن بن الأسود عبد يغوث زهري تابعي ، وليس فيه غيرهما ، وفي شيوخ الترمذي والنسائي عبد الرحمن بن الأسود الوراق ، وليس في الكتب الستة عبد الرحمن بن الأسود غير هؤلاء ، ووقع في كتاب الداودي وابن التين أن عبد الرحمن الواقع في رواية البخاري هو ابن عبد يغوث ، وهو وهم فاحش منهما إذ الأسود الزهري لم يسلم ، فضلا أن يعيش حتى يروي عن عبد الله بن مسعود .

                                                                                                                                                                                  الخامس : الأسود ، ابن يزيد من الزيادة ، ابن قيس الكوفي النخعي ، وقد مر في باب : من ترك بعض الاختيار في كتاب العلم .

                                                                                                                                                                                  السادس : عبد الله بن مسعود رضي الله عنه .

                                                                                                                                                                                  ( بيان لطائف إسناده ) منها أن فيه التحديث والعنعنة والسماع ، ومنها أن رواته كلهم ثقات كوفيون ، ومنها أن فيه ثلاثة من التابعين يروي بعضهم عن بعض ، وهم أبو إسحاق وعبد الرحمن بن الأسود وأبوه الأسود بن يزيد ، ومنها نفى أبو إسحاق روايته ها هنا عن أبي عبيدة وتصريحه بأنه لا يروي هذا الحديث ها هنا إلا عن عبد الرحمن بن الأسود ، وهو معنى قوله : « قال ليس أبو عبيدة ذكره " أي : قال أبو إسحاق : ليس أبو عبيدة ذكره لي ، ولكن عبد الرحمن بن الأسود هو الذي ذكره لي بدليل قوله في الرواية الآتية المعلقة : حدثني عبد الرحمن ، وقال بعضهم : وإنما عدل أبو إسحاق عن الرواية عن أبي عبيدة إلى الرواية عن عبد الرحمن مع أن الرواية عن أبي عبيدة أعلى له لكون أبي عبيدة لم يسمع من أبيه على الصحيح ، فتكون منقطعة بخلاف رواية عبد الرحمن فإنها موصولة .

                                                                                                                                                                                  قلت : قول أبي إسحاق هذا يحتمل أن يكون نفيا لحديثه وإثباتا لحديث عبد الرحمن ، ويحتمل أن يكون إثباتا لحديثه أيضا ، وأنه كان غالبا يحدثه به عن أبي عبيدة فقال يوما : ليس هو حدثني وحده ، ولكن عبد الرحمن أيضا ، وقال الكرابيسي في كتاب المدلسين : أبو إسحاق يقول في هذا الحديث مرة حدثني عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله ، ومرة حدثني علقمة عن عبد الله ، ومرة حدثني أبو عبيدة عن عبد الله ، ومرة يقول : ليس أبو عبيدة حدثنيه ، وإنما حدثني عبد الرحمن عن عبد الله ، وهذا دليل واضح أنه رواه عن عبد الرحمن بن الأسود سماعا فافهم .

                                                                                                                                                                                  وأما قول هذا القائل لكون أبي عبيدة لم يسمع من أبيه فمردود بما ذكر في المعجم الأوسط للطبراني من حديث زياد بن سعد عن أبي الزبير قال : حدثني يونس بن عتاب الكوفي ، سمعت أبا عبيدة بن عبد الله يذكر أنه سمع أباه يقول : "كنت مع النبي - عليه الصلاة والسلام - في سفر" الحديث ، وبما أخرج الحاكم في مستدركه حديث أبي إسحاق عن أبي عبيدة عن أبيه في ذكر يوسف عليه السلام ، وصحح إسناده ، وربما حسن الترمذي عدة أحاديث رواها عن أبيه منها "لما كان يوم بدر وجيء بالأسرى " ، ومنها : كان في الركعتين الأوليين كأنه على الرصف ، ومنها قوله ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله ومن شرط الحديث الحسن أن يكون متصل الإسناد عند المحدثين .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر رجال هذا الحديث ) وهو صحيح كما ترى إذ لو لم يكن صحيحا لما أخرجه ها هنا ، ويؤيده أن ابن المديني لما سئل عنه لم يقض فيه بشيء ، فلو كان منقطعا أو مدلسا لبينه .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : قال ابن الشاذكوني : هذا الحديث مردود ; لأنه مدلس ; لأن السبيعي لم يصرح فيه بسماع ، ولم يأت فيه بصيغة معتبرة ، وما سمعت بتدليس أعجب من هذا ولا أخفى ، فقال أبو عبيدة : لم يحدثني [ ص: 303 ] ولكن عبد الرحمن عن فلان ، ولم يقل حدثني ، فجاز الحديث وسار . قلت : أبو إسحاق سمعه من جماعة ولكنه كان غالبا إنما يحدث به عن أبي عبيدة ، فلما نشط يوما قال : ليس أبو عبيدة الذي في ذهنكم ، إني حدثتكم عنه حدثني وحده ، ولكن عبد الرحمن بن الأسود ، ولعل البخاري لم ير ذلك متعارضا وجعلهما إسنادين أو أسانيد .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : قال ابن أبي حاتم عن أبي زرعة : اختلفوا في هذا الحديث ، والصحيح عندي حديث أبي عبيدة بن عبد الله عن أبيه ، وزعم الترمذي أن أصح الروايات عنده حديث قيس بن الربيع وإسرائيل عن أبي عبيدة عن عبد الله قال : لأن إسرائيل أثبت وأحفظ لحديث أبي إسحاق من هؤلاء ، وتابعه على ذلك قيس وزهير عن أبي إسحاق ليس بذلك ; لأن سماعه منه بآخرة ، سمعت أحمد بن الحسن ، سمعت أحمد بن حنبل يقول : إذا سمعت الحديث عن زائدة وزهير فلا تبال أن لا تسمعه من غيرهما إلا حديث أبي إسحاق ، ورواه زكريا بن أبي زائدة عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن يزيد عن عبد الله ، وهذا حديث فيه اضطراب ، قال : وسألت الدارمي : أي الروايات في هذا أصح عن أبي إسحاق ؟ فلم يقض فيه بشيء ، وسألت محمدا عن هذا ، فلم يقض بشيء ، وكأنه رأى حديث زهير أشبه ، ووضعه في جامعه .

                                                                                                                                                                                  قلت : كون حديث أبي عبيدة عن أبيه صحيحا عند أبي زرعة لا ينافي صحة طريق البخاري .

                                                                                                                                                                                  وأما ترجيح الترمذي حديث إسرائيل على حديث زهير فمعارض بما حكاه الإسماعيلي في صحيحه ; لأنه رواه من حديث يحيى بن سعيد ويحيى بن سعيد لا يرضى أن يأخذ عن زهير عن أبي إسحاق ما ليس بسماع لأبي إسحاق ، وقال الآجري : سألت أبا داود عن زهير وإسرائيل في أبي إسحاق ، فقال : زهير فوق إسرائيل بكثير ، وتابعه إبراهيم بن يوسف عن أبيه وابن حماد الحنفي وأبو مريم وشريك وزكريا بن أبي زائدة فيما ذكره الدارقطني ، وإسرائيل اختلف عليه ، فرواه كرواية زهير ، ورواه عباد القطواني وخالد العبد عنه عن أبي إسحاق عن علقمة عن عبد الله ، ورواه الحميدي عن ابن عيينة عنه عن أبي إسحاق عن عبد الرحمن بن يزيد ذكره الدارقطني والعدوي في مسنده .

                                                                                                                                                                                  وزهير لم يختلف عليه ، واعتماده على متابعة قيس بن الربيع ليس بشيء لشدة ما رمي به من نكارة الحديث والضعف وإضرابه عن متابعة الثوري ويونس وهما هما ، ومن أكبر ما يؤاخذ به الترمذي أنه أضرب عن الحديث المتصل الصحيح إلى منقطع على ما زعمه ; فإنه قال : أبو عبيدة لم يسمع من أبيه ولا يعرف اسمه ، وقال في جامعه : حدثنا هناد وقتيبة قالا : حدثنا وكيع عن إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي عبيدة عن عبد الله " خرج النبي - صلى الله تعالى عليه وآله وسلم - لحاجة فقال : التمس لي ثلاثة أحجار ، قال : فأتيته بحجرين وروثة ، فأخذ الحجرين ورمى الروثة ، وقال : إنها ركس " ، وقد أجبنا عن قول من يقول أبو عبيدة لم يسمع من أبيه وكيف ما سمع ، وقد كان عمره سبع سنين حين مات أبوه عبد الله ، قاله غير واحد من أهل النقل ، وابن سبع سنين لا ينكر سماعه من الغرباء عند المحدثين فكيف من الآباء القاطنين .

                                                                                                                                                                                  وأما اسمه فقد ذكر في الكنى لمسلم ، والكنى لأبي أحمد ، وكتاب الثقات لابن حبان ، وغيرها أنه عامر . والله أعلم ، وقيل : اسمه كنيته ، وهو هذلي كوفي أخو عبد الرحمن ، وكان يفضل عليه ، كما قاله أحمد ، حدث عن عائشة رضي الله عنها وغيرها ، وحدث عن أبيه في السنن ، وعنه السبيعي وغيره ، مات ليلة دجيل .

                                                                                                                                                                                  ( بيان من أخرجه غيره ) هو من أفراد البخاري ، ولم يخرجه مسلم ، وأخرجه النسائي في الطهارة عن أحمد بن سليمان عن أبي نعيم به ، وأخرجه ابن ماجه فيه عن أبي بكر بن خلاد عن يحيى بن سعيد عن زهير به .

                                                                                                                                                                                  ( بيان اللغات ) .

                                                                                                                                                                                  قوله : « الغائط " أي : الأرض المطمئنة لقضاء الحاجة ، والمراد به معناه اللغوي ، قوله : « روثة " في العباب : الروثة واحدة الروث والأرواث ، وقد راث الفرس يروث ، وقال التيمي : قيل : الروثة إنما تكون للخيل والبغال والحمير ، قوله : « ركس " بكسر الراء الرجس ، وبالفتح رد الشيء مقلوبا ، وقال النسائي في سننه : الركس طعام الجن ، وقال الخطابي : الركس الرجيع ، يعني قد رد عن حال الطهارة إلى حال النجاسة ، ويقال : ارتكس الرجل في البلاء إذا رد فيه بعد الخلاص منه ، وقد جاء الرجس بمعنى الإثم والكفر والشرك كقوله تعالى فزادتهم رجسا إلى رجسهم وقيل نحوه في قوله تعالى ليذهب عنكم الرجس أي : ليطهركم من جميع هذه الخبائث ، وقد يجيء بمعنى العذاب والعمل الذي يوجبه كقوله ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون وقيل : بمعنى اللعنة في الدنيا والعذاب في الآخرة ، وقال ابن التين : الرجس والركس في هذا الحديث قيل النجس ، وقيل : القذر ، وقال ابن بطال : يمكن أن يكون معنى ركس رجسا ، قال : ولم أجد لأهل اللغة شرح هذه الكلمة والنبي [ ص: 304 ] عليه الصلاة والسلام أعلم الأمة باللغة ، وقال الداودي : يحتمل أن يريد بالركس النجس ، ويحتمل أن يريد لأنها طعام الجن ، وفي العباب : الركس فعل بمعنى مفعول ، كما أن الرجيع من رجعته ، والرجس بالكسر والرجس بالتحريك ، والرجس مثال كتف القذر ، يقال : رجس نجس ، ورجس نجس ، ورجس نجس إتباع ، وقال الأزهري : الرجس اسم لكل ما استقذر من العمل ، ويقال : الرجس المأثم .

                                                                                                                                                                                  ( بيان الإعراب ) .

                                                                                                                                                                                  قوله : « ذكره " جملة في محل النصب ; لأنها خبر ليس ، قوله : « ولكن " للاستدراك ، وقوله : « عبد الرحمن " مرفوع بفعل محذوف تقديره : ولكن حدثني عبد الرحمن ، قوله : « أنه " أصله بأنه ، وقوله : « عبد الله " مفعول لقوله : « سمع " فقوله : « يقول " جملة في محل النصب على الحال ، قوله : « الغائط " منصوب بقوله : « أتى " قوله : « أن آتيه " كلمة أن مصدرية صلة للأمر ، أي : أمرني بإتيان الأحجار ، وليست أن هذه مفسرة بخلاف أن في قوله : « أمرته أن يفعل " فإنها تحتمل أن تكون صلة وأن تكون مفسرة ، قوله : « فوجدت " بمعنى أصبت ولهذا اكتفى بمفعول واحد ، وهو حجرين ، قوله : « هذا ركس “ مبتدأ وخبر وقعت مقول القول .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : المشار إليه يؤنث ، وهو قوله : « روثة " فكيف ذكر الضمير ؟ قلت : التذكير باعتبار تذكير الخبر ، كما في قوله تعالى هذا ربي وفي بعض النسخ هذه على الأصل .

                                                                                                                                                                                  ( بيان المعاني ) .

                                                                                                                                                                                  قوله : « والتمست الثالث " أي : طلبت الحجر الثالث ، قوله : « فلم أجده " بالضمير المنصوب رواية الكشميهني ، وفي رواية غيره "فلم أجد" بدون الضمير ، قوله : « فأتيته بها " أي : أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - بالثلاثة من الحجرين والروثة ، وليس الضمير في بها عائدا إلى الروثة فقط ، قوله : « هذا ركس " كذا وقع ها هنا ، فقيل هو لغة في رجس بالجيم ، ويدل عليه رواية ابن ماجه وابن خزيمة في هذا الحديث ; فإنه عندهما بالجيم ، وقال ابن خزيمة : حدثنا أبو سعيد الأشج ، حدثنا زياد بن الحسن بن فرات ، عن أبيه ، عن جده ، عن عبد الرحمن بن الأسود ، عن علقمة ، عن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال : أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتبرز فقال : ائتني بثلاثة أحجار ، فوجدت له حجرين وروثة حمار ، فأمسك الحجرين وطرح الروثة ، وقال : هي رجس .

                                                                                                                                                                                  ( بيان استنباط الأحكام ) :

                                                                                                                                                                                  الأول : فيه منع الاستنجاء بالروث ، والباب معقود عليه ، وقد مر الكلام فيه مستوفى في الباب الذي قبله ، وقال ابن خزيمة في الحديث الذي رواه الذي ذكرناه الآن : فيه بيان أن أرواث الحمر نجسة ، وإذا كانت أرواث الحمر نجسة بحكم النبي - عليه الصلاة والسلام - كان حكم جميع أرواث ما لا يجوز أكل لحمها من ذوات الأربع مثل أرواث الحمر .

                                                                                                                                                                                  قلت : قد اختلف العلماء في صفة نجاسة الأرواث ، فعند أبي حنيفة هي نجس مغلظ وبه قال زفر ، وعند أبي يوسف ومحمد : نجس مخفف ، وقال مالك : الروث طاهر .

                                                                                                                                                                                  الثاني : فيه منع الاستنجاء بالنجس ; فإن الركس هو النجس ، كما ذكرناه .

                                                                                                                                                                                  الثالث : قال الخطابي : فيه إيجاب عدد الثلاث في الاستنجاء إذ كان معقولا أنه إنما استدعاها ليستنجي بها كلها ، وليس في قوله : « فأخذ الحجرين " دليل على أنه اقتصر عليهما لجواز أن يكون بحضرته ثالث ، فيكون قد استوفاها عددا ، ويدل على ذلك خبر سلمان قال : نهانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نكتفي بدون ثلاثة أحجار ، وخبر أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم "ولا يستنجي بدون ثلاثة أحجار" قال : ولو كان القصد الإنقاء فقط لخلا اشتراط العدد عن الفائدة ، فلما اشترط العدد لفظا وعلم الإنقاء فيه معنى دل على إيجاب الأمرين ، ونظيره العدة بالأقراء ; فإن العدد مشترط ، ولو تحققت براءة الرحم بقرء واحد انتهى .

                                                                                                                                                                                  قلت : لا نسلم أن فيه إيجاب عدد الثلاث ; بل كان ذلك للاحتياط ; لأن التطهير بواحد أو اثنين لم يكن محققا فلذلك نص على الثلاث ; لأن بالثلاث يحصل التطهير غالبا ، ونحن نقول أيضا إذا تحقق شخص أنه لا يطهر إلا بالثلاث يتعين عليه الثلاث ، والتعيين ليس لأجل التوفية فيه ، وإنما هو للإنقاء الحاصل فيه حتى إذا احتاج إلى رابع أو خامس وهلم جرا يتعين عليه ذلك على أن الحديث متروك الظاهر ; فإنه لو استنجى بحجر له ثلاثة أحرف جاز بالإجماع .

                                                                                                                                                                                  وقوله : وليس في قوله : « فأخذ الحجرين " دليل على أنه اقتصر عليهما ليس كذلك ; بل فيه دليل على ذلك ; لأنه لو كان الثلاث شرطا لطلب الثالث ، فحيث لم يطلب دل على ما قلناه ، وتعليله بقوله لجواز أن يكون بحضرته ثالث ممنوع ; لأن قعوده عليه الصلاة والسلام للغائط كان في مكان ليس فيه أحجار ; إذ لو كانت هناك أحجار لما قال له ائتني بثلاثة أحجار ; لأنه لا فائدة لطلب الأحجار ، وهي حاصلة عنده ، وهذا معلوم بالضرورة ، وقوله : ولو كان المقصد الإنقاء فقط لخلا [ ص: 305 ] اشتراط العدد عن الفائدة قلنا : إن ذكر الثلاث لم يكن للاشتراط ; بل للاحتياط ، إلى آخر ما ذكرناه الآن .

                                                                                                                                                                                  قوله : « ونظيره العدة بالأقراء " غير مسلم ; لأن العدد فيه شرط بنص القرآن والحديث ، ولم يعارضه نص آخر بخلاف العدد ها هنا ; لأنه ورد " من فعل فقد أحسن ، ومن لا فلا حرج " ، فهذا لما دل على ترك أصل الاستنجاء دل على ترك وصفه أيضا بالطريق الأولى ، وقال بعضهم : استدل به الطحاوي على عدم اشتراط الثلاثة ، قال : لأنه لو كان شرطا لطلب ثالثا ، كذا قاله وغفل عما أخرجه أحمد في مسنده من طريق معمر عن أبي إسحاق ، عن علقمة ، عن ابن مسعود في هذا الحديث ; فإن فيه " فألقى الروثة ، وقال : إنها ركس ، ائتني بحجر " ، ورجاله ثقات أثبات ، وقد تابع معمرا عليه أبو شيبة الواسطي ، أخرجه الدارقطني ، وتابعهما عمار بن زريق أحد الثقات عن أبي إسحاق .

                                                                                                                                                                                  قلت : لم يغفل الطحاوي عن ذلك ، وإنما الذي نسبه إلى الغفلة هو الغافل ، وكيف يغفل عن ذلك وقد ثبت عنده عدم سماع أبي إسحاق عن علقمة ، فالحديث عنده منقطع ، والمحدث لا يرى العمل به ، وأبو شيبة الواسطي ضعيف ، فلا يعتبر بمتابعته ، فالذي يدعي صنعة الحديث كيف يرضى بهذا الكلام وقد قال أبو الحسن بن القصار المالكي : روي أنه أتاه بثالث لكن لا يصح ، ولو صح فالاستدلال به لمن لا يشترط الثلاثة قائم ; لأنه اقتصر في الموضعين على ثلاثة فحصل لكل منهما أقل من ثلاثة ، وقول ابن حزم هذا باطل ; لأن النص ورد في الاستنجاء ، ومسح البول لا يسمى استنجاء باطل على ما لا يخفى ، ثم قال هذا القائل : واستدلال الطحاوي أيضا فيه نظر لاحتمال أن يكون اكتفى بالأمر الأول في طلب الثلاثة فلم يجدد الأمر بطلب الثالث ، أو اكتفى بطرف أحدهما عن الثالث ; لأن المقصود بالثلاثة أن يمسح بها ثلاث مسحات ، وذلك حاصل ، ولو بواحد ، والدليل على صحته أنه لو مسح بطرف واحد ، ثم رماه ، ثم جاء شخص آخر فمسح بطرفه الآخر لأجزأهما بلا خلاف .

                                                                                                                                                                                  قلت : نظره مردود عليه ; لأن الطحاوي استدل بصريح النص لما ذهب إليه وبالاحتمال البعيد كيف يدفع هذا ، وقوله : لأن المقصود بالثلاثة أن يمسح بها ثلاث مسحات ، ينافيه اشتراطهم العدد في الأحجار ; لأنهم مستدلون بظاهر قوله : « ولا يستنج أحدكم بأقل من ثلاثة أحجار " وقوله : « وذلك حاصل ولو بواحد " مخالف لصريح الحديث ، فهل رأيت من يرد بمخالفة ظاهر حديثه الذي يحتج به على من يحتج بظاهر الحديث بطريق الاستدلال الصحيح ، وهل هذا إلا مكابرة وتعنت ؟! عصمنا الله من ذلك .

                                                                                                                                                                                  ومن أمعن النظر في أحاديث الباب ودقق ذهنه في معانيها علم وتحقق أن الحديث حجة عليهم ، وأن المراد الإنقاء لا التثليث ، وهو قول عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه ، حكاه العبدري ، وإليه ذهب أبو حنيفة ومالك وداود ، وهو وجه للشافعية أيضا .


                                                                                                                                                                                  هذا موجود في غالب النسخ ذكره أبو مسعود وخلف وغيرهما عن البخاري ، وليس بموجود في بعضها ، وأراد البخاري بهذا التعليق الرد على من زعم أن أبا إسحاق دلس هذا الخبر كما حكى ذلك عن الشاذكوني ، كما ذكرناه فيما مضى ; فإنه صرح فيه بالتحديث ، وقد استدل الإسماعيلي أيضا على صحة سماع أبي إسحاق لهذا الحديث من عبد الرحمن لكون يحيى القطان رواه عن زهير ، ثم قال : ولا يرضى القطان أن يأخذ عن زهير ما ليس بسماع لأبي إسحاق ، كما ذكرناه ، وإبراهيم بن يوسف بن إسحاق بن أبي إسحاق السبيعي الهمداني الكوفي روى عن أبيه وجده ، وعنه أبو كريب وجماعة ، فيه لين ، أخرجوا له سوى ابن ماجه ، مات سنة ثمان وتسعين ومائة ، وأبو يوسف الكوفي الحافظ روى عن جده والشعبي ، وعنه ابن عيينة وغيره ، مات في زمن أبي جعفر المنصور ، ويقال : توفي سنة سبع وخمسين ومائة ، وعبد الرحمن هو ابن الأسود المتقدم ذكره .

                                                                                                                                                                                  وقال الكرماني : هذه متابعة ناقصة ذكرها البخاري تعليقا .

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : قد تكلم في إبراهيم ، قال عياش : إبراهيم عن يحيى ليس بشيء ، وقال النسائي : إبراهيم ليس بالقوي . قلت : يحتمل في المتابعات ما لا يحتمل في الأصول . انتهى كلامه . قلت : لأجل متابعة يوسف المذكور حفيد أبي إسحاق زهير بن معاوية رجح البخاري رواية زهير المذكورة وتابعهما أيضا شريك القاضي وزكريا بن أبي زائدة وغيرهما ، وتابع أبا إسحاق على روايته عن عبد الرحمن المذكور ليث بن أبي سليم ، أخرجه ابن أبي شيبة ، وحديثه يستشهد به ، ولما اختار في رواية زهير طريق عبد الرحمن على طريق أبي عبيدة دل على أنه عارف بالطريقين وأن رواية عبد الرحمن عنده أرجح . والله أعلم .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية