الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ثم إنه لما عربت الكتب اليونانية في حدود المائة الثانية وقبل ذلك وبعد ذلك وأخذها أهل الكلام وتصرفوا فيها من أنواع الباطل في الأمور الإلهية ما ضل به كثير منهم، وفيها من أمور الطب والحساب ما لا يضر كونه في ذلك، وصار الناس فيها أشتاتا: قوم يقبلونها، وقوم يحكون ما فيها، وقوم يعرضون [ ص: 339 ] ما فيها على أصولهم وقواعدهم فيقبلون ما وافق ذلك دون ما خالفه، وقوم يعرضونها على ما جاءت به الرسل من الكتاب والحكمة، وحصل بسبب تعريبها أنواع من الفساد والاضطراب، مضموما إلى ما حصل من التقصير والتفريط في معرفة ما جاءت به الرسل من الكتاب والحكمة، حتى صار ما مدح في الكتاب والسنة من مسمى الحكمة يظن كثير من الناس أنه حكمة هذه الأمة أو نحوها من الأمم كالهند وغيرهم، ولم يعلموا أن اسم "الحكمة" مثل اسم "العلم" و "العقل" و "المعرفة" و "الدين" و "الحق" و "العدل" و "الخير" و "الصدق" و "المحبة" ونحو ذلك من الأسماء التي اتفق بنو آدم على استحسان مسمياتها ومدحها؛ وإنما تنازعوا في تحقيق مناطها وتغيير مسمياتها؛ [ ص: 340 ] فإن كل أمة من أهل الكتب في كثير من ذلك أو أكثره إن تتبع إلا الظن، وما تهوى الأنفس، ولهذا قال تعالى وتقدس: كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه [البقرة: 213 ] فإنما يفصل النزاع بين الآدميين كتاب منزل من السماء؛ ولهذا أمر الله تعالى المؤمنين عند تنازعهم بالرد إليه، كما قال تعالى وتقدس: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا [النساء: 59 ] وهذا ونحوه مبسوط في غير هذا الموضع.

وإنما المقصود هنا أن الناقلين للمقالات وأهل الجدل صاروا يعبرون باللفظة المعربة من "سوفسقيا" إلى "سوفسطا" عن هذا المعنى الذي يتضمن إنكار الحق وتمويهه بالباطل، وظن من ظن أن هذا قول ومذهب عام لطائفة في كل حق؛ وليس الأمر كذلك؛ وإنما هو عارض لبني آدم في كثير من أمورهم، [ ص: 341 ] فكل من جحد حقا معلوما وموه ذلك بباطل فهو مسفسط في هذا الموضع وإن كان مقرا بأمور أخرى، وهو معاند سوفسطائي إذا علم ما أنكره، قال تعالى وتقدس: وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا [النمل: 14 ] فهؤلاء سوفسطائيون في هذا الجحود وإن كانوا مقرين بأمور أخرى، وقال تعالى وتقدس: فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون [الأنعام: 33 ] ولهذا كان جمهور من يكذب بالحق الذي بعث الله به رسله من ذوي التمييز هم من الجاحدين المعاندين، وهم من شر السوفسطائيين.

التالي السابق


الخدمات العلمية