الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الوجه السادس: أن يقال: ما معنى قوله: "فليستحدث لنفسه فطرة أخرى" وهم مع ذلك قد نصوا على أن روم نقل الطباع من ردي الأطماع شديد الامتناع فكيف يحدثون فطرة أخرى والفطرة هي الخلقة التي فطر الله عباده عليها؟ أتريد أن يبدل خلقته وما فيها من قوى الإدراك والحركة فهذا غير مقدور للبشر، فإن الله تعالى فطر عباده على ذلك. أم تريد أن يترك ما فطر عليه من المعارف والعلوم ويستحدث لنفسه معارف تخالف ذلك -وهذا هو الذي يصلح أن يريده- فهذا أمر تبديل فطرة الله التي فطر عليها عباده، وهي طريقة المبتدعة المبدلين لفطرة الله وشرعته، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه ويشركانه" فأهل الكتاب المنزل بدلوا وحرفوا من كتاب الله تعالى ما بدلوه وحرفوه، وهم مع الصابئين والمشركين القائمين بالنظر العقلي بدلوا من فطرة الله تعالى التي فطر عباده عليها وغيروا منها ما [ ص: 471 ] غيروا !

ولهذا قيل: إن أرسطو هذا بدل طريقة الصابئة الذين كانوا قبله والذين كانوا مؤمنين بالله واليوم الآخر الذين أثنى عليهم القرآن. فهذا الكلام المنقول عنه يوافق ذلك. وهؤلاء المحرفة المبدلة في هذه الأمة من الجهمية وغيرهم اتبعوا سنن من كان قبلهم من اليهود والنصارى وفارس والروم، فغيروا فطرة الله تعالى، وبدلوا كتاب الله، والله سبحانه وتعالى خلق عباده على الفطرة التي فطرهم عليها، وبعث إليهم رسله، وأنزل عليهم كتبه، فصلاح العباد وقوامهم بالفطرة المكملة بالشرعة المنزلة، وهؤلاء بدلوا وغيروا فطرة الله وشرعته: خلقه وأمره، وأفسدوا اعتقادات الناس وإراداتهم: إدراكاتهم وحركاتهم، قولهم وعملهم، من هذا وهذا، كما بدل الذين ظلموا من بني إسرائيل القول الذي أمروا به والعمل الذي أمروا به، ففي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قيل لهم: وادخلوا الباب سجدا وقولوا حطة [البقرة: 58 ] فدخلوا الباب يزحفون على [ ص: 472 ] أستاهم، وقالوا حبة في شعرة".

وقد ذكرنا في غير هذا الموضع أن مبدأ التجهم في هذه الأمة كان أصله من المشركين ومبدلة الصابئين من الهند واليونان ، وكان من مبدلة أهل الكتاب من اليهود، وأن الجعد بن درهم، ثم الجهم بن صفوان ومن اتبعهما أخذوا ذلك [ ص: 473 ] عنهم.

وأنه بعد ذلك أواخر المائة الثانية وقبلها وبعدها اجتلبت كتب اليونان وغيرهم من الروم من بلاد النصارى وعربت وانتشر مذهب مبدلة الصابئة مثل أرسطو وذويه، وظهر في ذلك الزمان "الخرمية" وهم أول القرامطة الباطنية الذين كانوا في الباطن يأخذون بعض دين الصابئين المبدلين وبعض دين المجوس، كما أخذوا عن هؤلاء كلامهم في العقل [ ص: 474 ] والنفس، وأخذوا عن هؤلاء كلامهم في النور والظلمة، وكسوا ذلك عبارات، وتصرفوا فيه، وأخرجوه إلى المسلمين. وكان من القرامطة الباطنية في الإسلام ما كان، وهم كانوا كثيرا يميلون إلى طريقة الصابئة المبدلين وفي زمنهم صنفت "رسائل إخوان الصفا" وذكر ابن [ ص: 475 ] سينا أن أباه كان من أهل دعوتهم من أهل دعوة المصريين منهم، وكانوا إذ ذاك قد ملكوا مصر وغلبوا عليها، قال ابن سينا: (وبسبب ذلك اشتغلت في الفلسفة ) لكونهم كانوا يرونها، وظهر في غير هؤلاء من التجهم ما ظهر، وظهر بذلك تصديق ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، كما ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله ! اليهود والنصارى؟ قال: فمن" وروى [ ص: 476 ] البخاري في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لا تقوم الساعة حتى تأخذ أمتي ما أخذ القرون شبرا بشبر وذراعا بذراع، فقيل يا رسول الله كفارس والروم. قال: فمن الناس إلا أولئك؟ ! ". [ ص: 477 ]

ومعلوم أن أهل الكتاب أقرب إلى المسلمين من المجوس والصابئين والمشركين فكان أول ما ظهر من البدع فيه شبه من اليهود والنصارى والنبوة كلما ظهر نورها انطفت البدع. وهي في أول الأمر كانت أعظم ظهورا: فكان إنما يظهر من البدع ما كان أخف من غيره، كما ظهر في أواخر عصر الخلفاء الراشدين بدعة الخوارج [ ص: 478 ] والتشيع، ثم في أواخر عصر الصحابة ظهرت القدرية والمرجئة، ثم بعد انقراض أكابر التابعين ظهرت الجهمية، ثم لما عربت كتب الفرس والروم ظهر التشبه بفارس والروم. وكتب الهند انتقلت بتوسط الفرس إلى المسلمين، وكتب اليونان انتقلت بتوسط الروم إلى المسلمين: فظهرت الملاحدة الباطنية الذين ركبوا مذهبهم من قول المجوس واليونان مع ما أظهروه من التشيع، وكانت قرامطة البحرين أعظم تعطيلا وكفرا، كفرهم من جنس كفر [ ص: 479 ] فرعون؛ بل شر منه.

التالي السابق


الخدمات العلمية