الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 445 ] وأما "الطريقة الثانية" التي سلكها المتكلمون في جواز الرؤية فهي الطريقة التي اختارها أبو المعالي في كتابه المعروف "بالإرشاد" وهي هذه الطريقة وتلخيصها: أن الحواس إنما تدرك ذوات الأشياء، وما تنفصل به الموجودات بعضها من بعض، فهو أحوال ليست بذوات، فالحواس لا تدركها وإنما تدرك الذات، والذات هي نفس الوجود المشترك لجميع الموجودات. فإذا الحواس إنما تدرك الشيء من حيث هو موجود. وهذا كله في غاية الفساد. ومن أبين ما يظهر به فساد هذا القول أنه لو كان البصر إنما يدرك الأشياء لوجودها لما [ ص: 446 ] أمكنه أن يفرق بين الأبيض والأسود؛ لأن الأشياء لا تفترق بالشيء الذي تشترك فيه، ولكان بالجملة لا يمكن في الحواس: لا في البصر أن يدرك فصول الألوان، ولا في السمع أن يدرك فصول الأصوات، ولا في الطعم أن يدرك فصول المطعومات، وللزم أن تكون مدارك المحسوسات بالحس واحدا، فلا يكون فرق بين مدرك السمع وبين مدرك البصر. وهذا كله في غاية الخروج عما يعقله الإنسان، وإنما تدرك الحواس ذوات الأشياء المشار إليها بتوسط إدراكها لمحسوساتها الخاصة بها، فوجه المغالطة في هذا هو أن ما يدرك ذاتيا أخذ أنه مدرك بذاته، ولولا النشوء على هذه الأقاويل وعلى التعظيم للقائلين بها لما أمكن أن يكون فيها شيء من الإقناع، ولا وقع بها التصديق لأحد سليم الفطرة.

والسبب في مثل هذه الحيرة الواقعة في الشريعة، حتى ألجأت القائمين بنصرتها في زعمهم إلى مثل هذه الأقاويل [ ص: 447 ] الهجينة التي هي ضحكة عند من عني بتمييز أصناف الأقاويل أدنى عناية، هو التصريح في الشرع بما لم يأذن الله ورسوله [به ] وهو التصريح بنفي الجسمية للجمهور، وذلك أن من العسير أن يجتمع في اعتقاد واحد أن ها هنا موجودا ليس بجسم، وأنه مرئي بالأبصار؛ لأن مدارك الحواس هي في الأجسام أو أجسام، ولذلك رأى قوم أن هذه الرؤية هي مزيد علم في ذلك الوقت، وهذا لا يليق أيضا الإفصاح به للجمهور، فإنه لما كان العقل من الجمهور لا ينفك من التخيل، بل ما لا يتخيلون هو عندهم عدم، وكان تخيل ما ليس بجسم لا يمكن، والتصديق بوجود ما ليس بمتخيل غير ممكن عندهم: عدل الشرع عن التصريح لهم بهذا المعنى، فوصف لهم نفسه سبحانه وتعالى بأوصاف تقرب من قوة التخيل: مثل ما وصفه به من السمع والبصر والوجه وغير ذلك، مع تعريفهم أنه لا يجانسه شيء من الموجودات المتخيلة، ولا يشبهه، ولو كان القصد تعريف الجمهور أنه ليس بجسم لما صرح لهم بشيء من [ ص: 448 ] ذلك؛ بل لما كان أرفع الموجودات المتخيلة هو النور، ضرب [لهم ] المثال به إذ كان النور هو أشهر الموجودات عند الحس والتخيل، وبهذا النحو من التصور أمكن أن يفهموا المعاني الموجودة في المعاد أعني أن تلك المعاني مثلت لهم بأمور متخيلة محسوسة، فإذا متى أخذ الشرع في أوصاف الله تعالى على ظاهره لم تعرض فيه هذه الشبهة ولا غيرها؛ لأنه إذا قيل إنه نور، وإن له حجابا من نور، كما جاء في القرآن والسنن الثابتة، ثم قيل إن المؤمنين يرونه في الدار الآخرة كما ترى الشمس: لم يعرض في هذا شك ولا شبهة في حق الجمهور ولا [في ] حق العلماء، وذلك أنه قد تبرهن عند العلماء أن تلك الحال مزيد علم؛ لكن متى صرح به للجمهور بطلت عندهم الشريعة كلها، أو كفروا المصرح لهم بها. فمن خرج عن منهاج الشريعة في هذه الأشياء فقد ضل عن سواء السبيل. [ ص: 449 ]

وأنت إذا تأملت الشرع وجدته مع أنه قد ضرب للجمهور في هذه المعاني المثالات التي لم يمكن تصورهم إياها دونها فقد نبه العلماء على تلك المعاني أنفسها التي ضربت مثالاتها للجمهور فيجب أن يوقف عند حد الشرع في نحو التعليم الذي خص به صنفا من الناس لئلا يختلط التعليمان كلاهما فتفسد الحكمة الشرعية النبوية، ولذلك قال عليه السلام: "إنا معشر الأنبياء أمرنا أن ننزل الناس منازلهم، وأن نخاطبهم على قدر عقولهم" ومن جعل الناس شرعا واحدا في [ ص: 450 ] التعليم فهو كمن جعلهم شرعا واحدا في عمل من الأعمال، وهذا كله خلاف المحسوس والمعقول.

وقد تبين لك من هذا أن "الرؤية" معنى ظاهر، وأنه ليس يعرض فيه شبهة إذا أخذ الشرع على ظاهره في حق الله تبارك وتعالى، أعني إذا لم يصرح فيه بنفي الجسمية ولا بإثباتها ).

التالي السابق


الخدمات العلمية