الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
[ 4 ] الإعداد الخلقي

تمهيد

جاءت الأديان كلها بالدعوة إلى الإعداد الخلقي للناس، وجعلته على قمة أهدافها التوجيهية والتربوية، وقد أكد الرسول صلى الله عليه وسلم هذا المعنى في ( قوله: إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق ) .

وباب الأخلاق باب كبير في السنة النبوية، وقبلها في القرآن الكريم، وقد اختلف العلماء في مفهوم الأخلاق، وعرفوها تعريفات مختلفة؛ غير أنهم جميعا يتفقون في صلة الأخلاق بالسلوك.

وأهمية الإعداد الخلقي للشباب أن الأخلاق مجالها الحياة كلها، وسلوك الإنسان كله، وعلاقاته بربه وبنفسه وبالآخرين؛ بل وبالمخلوقات كلها.

فالإعداد الخلقي للشباب هـو الذي يجعل من الصفات الحسنة، كالصدق والأمانة، والإخلاص والوفاء، والشجاعة والعفة، والمروءة والعدل وغيرها عادات في سلوك الشباب وحركته الدائبة، كما تجعله نافرا في سلوكه اليومي من الصفات السيئة، كالحسد والحقد، والخيانة والكذب، والظلم والغدر وغيرها، وبهذا الإعداد يتجنب الشباب مظاهر غير مرغوبة في السلوك الإنساني، كالحمق والتكبر، والصلف والتهور، والخوف والجزع، وقبول الذل والمهانة، والخشونة والغلظة في معاملة المؤمنين. [ ص: 141 ] وعلم الأخلاق - كما يقول الدكتور محمد عبد الله دراز -: نظري وعملي، والنظري هـو المسمى بـ " فلسفة الأخلاق " أو " علم الأخلاق النظري " ، وهو من علم الأخلاق العملي بمنزلة أصول الفقه من الفقه، فهو شأن الخواص والمجتهدين،ولا يطلب من غيرهم إلا كما تطلب النافلة بعد تمام الفريضة. ولذلك لا نجد له من الأقدمية، ولا من الشمول ما لعلم الأخلاق العملي " [1] .

والفرق بينهما أيضا " أن علم الأخلاق العملي نفسه هـو أيضا من قبيل النظر لا العمل، وإن كان العمل مادته كما هـو مادة العلم النظري، مع هـذا الفارق الوحيد بينهما: وهو أن العمل الذي هـو موضوع العلم العملي أنواع من الأفعال لها مثال في الخارج، كالصدق والعدل ونحوهما؛ بينما موضوع العلم النظري هـو جنس العمل المطلق، وفكرته المجردة، التي لا يتحقق مسماها خارجا إلا ضمن الأنواع التي يبحث عنها العلم العملي، تلك الأنواع التي تعد من قبيل الوسائل لتحقيق الخير المطلق، أو الفضيلة الكلية التي يبحث عنها العلم النظري. وهكذا يمكن اعتبار القسم العملي " فنا " أي: علما تطبيقيا بالنسبة للقسم النظري، ويمكن اعتباره في الوقت نفسه " علما نظريا " بالقياس إلى ضروب التخلف، وأساليب السلوك؛ التي هـي التطبيق الفعلي الحقيقي لقواعد ذلك العلم " [2] .

فالأخلاق في جانبها العملي أمر مكتسب يخضع للممارسة والتعود حتى يتطابق مع النظري المجرد.

وإذا كانت التربية تتناول قوى الإنسان وملكاته فإن عمل الأخلاق هـو [ ص: 142 ] توجيه هـذه الملكات والأعمال نحو الاستقامة، وجعلها عادات سلوكية راسخة، لذلك كله فإن إعداد الشباب إعدادا خلقيا يحتاج إلى أن نحدد أولا الأهداف التي نسعى إليها ثم الوسائل الموصلة إلى الأهداف.

أهداف الإعداد الخلقي للشباب

(1 ) تغيير اتجاهات الشباب النفسية والفكرية المتعارضة مع السلوك الاجتماعي المرغوب فيه إلى التغيير المرغوب فيه، والمتناسب مع عقيدة المجتمع، وقيمه، ومظاهر سلوكه الخلقي؛ وهذا يقتضي إزالة التناقض بين الأنظمة والقوانين المسيرة للحياة من ناحية، ورغبات المجتمع وتطلعاته وآماله المستمدة من عقيدته أخلاقه من ناحية أخرى حيث تعاني مجتمعاتنا من تباين القوى والعوامل المؤثرة فيه، والموجهة لسلوك الشباب؛ حيث تتعدد الاتجاهات السلوكية وتتعارض كثيرا.

(2 ) ربط التقدم الاقتصادي، والتكيف الاجتماعي بالأخلاق، فالتقدم الاقتصادي لا يعتمد على ما تملك الأمة من إمكانات مادية، وقوى بشرية متعلمة مدربة فحسب، بل على ما يتحلى به الأفراد العاملون المنتجون من سلوك أخلاقي يحكم علاقات الإنتاج، ويحقق التعاون، ويعمق الإحساس بالمسئولية، ويصون الحقوق العامة والخاصة، ثم ما يساعد الأفراد على زيادة التكيف الاجتماعي والتوافق النفسي في المجتمع.

(3 ) تحقيق التوازن بين القيم الأخلاقية النظرية والقيم الممارسة في المجتمع، والأخذ من العادات والتقاليد بما يتمشى مع قيم [ ص: 143 ] الإسلام الثابتة؛ التي يتطور الناس ليرتقوا إليها وليمارسوها في صور أفضل من ممارستها في أجواء الجهل والتخلف. وهذا التوازن هـو الذي يحقق ما يسمى بالتكيف مع المتغيرات، ويساعد على إعادة النظر في العادات والتقاليد الاجتماعية لتتطابق كلها مع قيم الحياة التي يتطور الناس حولها، ويغيرون من أساليبهم وطرقهم لملاءمتها.

وسائل الإعداد الخلقي

(1 ) البيئة الاجتماعية: حيث تبنى العلاقات بين الأفراد على أساس من السلوك الحسن والاحترام المتبادل، والتعود على الفضائل سلوكا وتعبدا، مثل: الإخلاص والأمانة، والمحبة والجد، والنظام والتعاون، والإخاء، والمودة والاحترام، والاعتماد على النفس، والرحمة، والشفقة وغير ذلك لتكون البيئة عاملا موجها لسلوك الأفراد، وميولهم، وغرائزهم، وكل ذلك في نطاق التعاون بين بيئات التربية الثلاث: المدرسة - المسجد - المجتمع.

فالأسرة هـي التي تغذي الصغار بالصفات الخلقية ا لحسنة عن طريق الممارسة اليومية، والسلوك الخلقي الحسن للوالدين، وترجمتهما لمعاني المسئولية والصدق والأمانة؛ ليعرف الطفل الأخلاق سلوكا طبيعيا عمليا قبل أن يعرفه في معانيه المجردة. أما المسجد فهو مكان الإشعاع الروحي والثقافي الذي يصوغ سلوك الناس فيه بما يناسبه من نقاء وطهر، وعفاف وتجرد، وانضباط والتزام. [ ص: 144 ] (2 ) المنهج الدراسي: وللمنهج وسائله المباشرة وغير المباشرة في تربية الأخلاق، فالدروس الخاصة بالتربية الخلقية والتي تهدف إلى تعلم الفضائل، وتحض على العادات الطيبة والسلوك الحسن وسائل مباشرة، أما تهيئة الجو المدرسي الذي يتبادل فيه الطلاب التجارب الحسنة، والخبرات الطيبة، ويتدربون فيها عمليا على ممارسة سلوك الفضيلة والخير والحق في بيئة اجتماعية صالحة موجهة فهذه هـي الوسائل غير المباشرة أو العملية التي تعد أكثر نفعا وأعظم جدوى من تعليم الأخلاق نظريا لأن علم الأخلاق ودراسته شيء، وممارسته في السلوك اليومي شيء آخر.

(3 ) الاتجاه العلمي في إبراز محاسن الأخلاق الفاضلة، ومضار السلوك السيء في حياة الأفراد والأمم،وذلك بالاستفادة من نتائج البحوث العلمية في مجالات علم النفس والاجتماع والفلسفة والطب، والتي أثبتت آثار السلوك الحسن والسلوك السيئ بما لا يدع مجالا للمغالطة أو الإنكار؛ وقد اعتادت الأمم أن تنشر إحصاءات مفصلة عن الجريمة ودواعيها، والمسكرات والمخدرات، وأنواع الانحراف والشذوذ المختلفة، ونتائج ذلك كله على أوجه الحياة المختلفة، اجتماعيا، واقتصاديا، وبشريا.

(4 ) الرفقة الحسنة: إذ أن الفرد يتأثر بمن حوله كما يتأثر بما حوله من بيئة يعيش فيها، وأسرة ينشأ فيها، ولذلك شبه الرسول صلى الله عليه وسلم الجليس الصالح ببائع المسك، والجليس السوء بنافخ الكير، فكلاهما مؤثر في صاحبه، والإنسان بطبعه مقلد لأصدقائه في [ ص: 145 ] سلوكهم ومظهرهم، وملبسهم؛ فمعاشرة الأبرار والشجعان تكسب الفرد طباعهم وسلوكهم، بينما تكسب معاشرة المنحرفين الفرد انحرافهم أو تقبل انحرافهم.

(5 ) دراسة سير الأنبياء والرسل والأبطال والنابغين في ميادين العلم والمعرفة، والقتال والحرب، وعلى رأس ذلك دراسة سيرة سيد الخلق صلوات الله وسلامه عليه؛ باعتباره القدوة الأولى للبشرية، لأن دراسة هـذه الشخصيات هـي التي تبعث الروح الخيرة في الناشئة، وتجسد فيهم معاني التضحية والفداء في سبيل المثل العليا، والمبادئ السامية.

كما أن دراسة هـذه النماذج تساعد المنظمات الموجهة للشباب في تطبيق السلوك الأخلاقي والاجتماعي بما يؤكد القيم الأخلاقية المرغوبة، وبما يحقق التوازن بين عطاء الأسرة والمدرسة والمجتمع؛ في النواحي السلوكية والأخلاقية.

(6 ) توحيد جهود الوسائل التربوية المتمثلة في البيت، والمدرسة، والراديو، والمسرح، والتليفزيون، والكتاب، ومنظمات الشباب، فإذا كانت المدرسة أو كان البيت قائما بالتربية الخلقية، والمؤسسات الأخرى تقوم بما يعكسها فلا قيمة لجهد البيت أو المدرسة.

إن المدرسة هـي أخطر مؤسسات التربية أثرا في حياة الناشئة؛ لما يمكث الطالب في التعليم من سنوات اليفاعة والشباب؛ غير أن دور المؤسسات الأخرى لا يقبل عنها؛ حيث أصبحت كلها مراكز نفوذ وتسلط، واختراق للحواجز والبيوت، الأمر الذي يؤكد حتمية توحيد هـذه الجهود منهجا وتخطيطا في سبيل تربية شباب الأمة على الخلق الجميل، والسلوك الحسن المرغوب فيه. [ ص: 146 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية