الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
ثانيا - افتقاد الهوية الذاتية

لكل أمة هـويتها وذاتيتها المميزة لها عن الأمم الأخرى، والشاب العربي يفتقد هـذه الهوية؛ بل لا يعرف عنها شيئا، فإذا سألته؛ من أنت؟ فربما اندهش من السؤال نفسه، لأنه لم يسأل نفسه !! وهوية الأمة أو شخصيتها تتكون من ثقافتها، وتراثها، وتقاليدها، وعقيدتها، وقوانينها، ونظمها. وهذه الثقافة هـي التي تطبعها بملامح خاصة، ومميزات معينة، وذاتية واضحة، وكيان أدبي، والمكونات الأساسية لشخصية أمة المسلمين هـي: [ ص: 34 ] (أ) عقيدتها المنزلة من السماء بما فيها من قيم، وأخلاق، وعبادات،وقوانين، ونظم، ومعارف، وآداب، وسلوك، وقدوة عليا؛ تتمثل في شخص الرسول صلى الله عليه وسلم .

(ب ) لغتها - لغة القرآن، والتراث الأدبي - حيث اللغة هـي شخصية الأمة التي تعبر بها عن نفسها، وأدبها، وتاريخها، وعقيدتها وهي وسيلتها لاكتساب المعرفة الإنسانية، وإيصال المعرفة للآخرين، وهي الدالة على طريقتنا في الاتصال، ووسيلتنا في التفكير، وهي مصدر عزنا وفخرنا لتكريم الله لها دون لغات الأرض.

(ج ) تراثها الحضاري وإسهاماتها في الفكر الإنساني، والكشف العلمي، وما أضاف أجدادنا إلى مختلف المعارف الإنسانية في مجال العلوم، والهندسة، والكيمياء، والطب، والرياضيات، والفلسفة، والاجتماع، والصوتيات، بل مع إبراز علمائنا من أمثال: جابر بن حيان ، والكندي ، والفارابي ، وابن رشد وابن الهيثم ، وابن جني وغيرهم، والذين قال فيهم " رام لاندو " : " لا يوجد سبب منطقي يبرر الفهم بأن العرب فقدوا الصفات التي مكنت أجدادهم من التفوق الحضاري، فهم لا يزالون يملكون تلك القيمة، ويستطيع أي إنسان عاش بين العرب أن يتأثر بإنسانيتهم ومقدرتهم العلمية " [1] .

إن الشخصية العربية بدأت وجودها المادي التاريخي قبل الإسلام، ولكنها ظهرت بوجودها الإنساني والحضاري مع بداية البعث الإسلامي، [ ص: 35 ] حيث جاء الإسلام تغييرا في الحياة يحمل كل المقومات الأساسية للتغيير، فهو دين أرسله الله إلى الناس كافة، والى العرب خاصة، وهو دين جاء ليحرر الإنسان من قيود الجاهلية وعبادة غير الله، وليرتفع به إلى عبادة مانح الحرية وخالق الكون والبشر، وهو دين جاء يحمل للإنسان مقومات وجوده وبقائه، لتحقيق أسرار وجوده ومهامه في الحياة. ولأن الإسلام جاء لصياغة الإنسان صياغة جديدة، وتغيير سلوكه إلى ما هـو مطلوب ومتناسب مع فطرته، فإن الشخصية الإسلامية استطاعت أن تتفاعل مع الحضارات، وأن تستوعب نتاج الفكر البشري، وأن تأخذ الجانب المشرق منه،وأن تنتج وتقدم للبشرية حضارة بناءة علمية مؤمنة تتناسب مع الشخصية الجديدة التي حملت رسالة الله للبشرية، ودعوته للإنسانية. وصياغة الشخصية المسلمة تتوقف على جهد الإنسان في تغيير نفسه وواقعة دون إكراه أو جبر. ( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ) [الرعد:11 ]. وهو تغيير لا يعتمد على تغيير الهياكل الاقتصادية والاجتماعية؛ وإنما تغيير البشر أنفسهم. إن الإنسانية استطاعت في عصرنا أن تحقق تقدما ملحوظا في النواحي العلمية والتكنولوجية، وفي المجالات الاقتصادية والاجتماعية، ولكنها عجزت عن إيجاد الشخصية الآمنة السعيدة ذات الثقل الاجتماعي والتميز الأخلاقي، وهما مشكلتان تعاني البشرية منهما؛ مع ما حقق الإنسان من سيطرة على نواح في العالم الخارجي. إن الإنسانية قد خدعت بقدرات العلم وتقدمه، وظن الكثيرون أن [ ص: 36 ] التطور في مجال العلم والتكنولوجيا سيعوض الإنسان عن معتقداته، وسيحل مشكلاته الاقتصادية والاجتماعية، ويعمل على تأمين سلامته وأمنه ورفاهيته وراحته، إلا أن ظنهم قد خاب نتيجة الخواء الروحي، وتغير أهداف العلم إلى شقاء البشرية، وخوفها، وإحساسها بالخطر الدائم؛ في ظل التسابق في إنتاج أسلحة الدمار والرعب.

إن التقدم العلمي قد طور من القدرات المادية للإنسان في التحكم بأنماط الحياة والتأثير في الكون بالتحكم في بعض ظواهره، ومعرفة بعض قوانينه، ولكنه عجز عن تكوين الشخصية الإنسانية بعيدا عن الدين والأخلاق، وعن إعطاء الحياة تفسيرا كاملا، مغايرا لمعطيات الدين الشاملة، ونظرته التكاملية للكون والحياة والناس، بل إنه قد عجز عن أن يدرأ الأخطار عن الجنس البشري.

إن الهوية الذاتية في المنظور الإسلامي إحساس بالذات، وإبراز للخصائص المرتبطة بالدين، والمنبثقة عنه، وهي أيضا إحياء لتراث الأمة، وتعرف على مكوناتها الروحية، وقيمها الثابتة الخالدة باختلاف الأزمنة والأمكنة؛ وهي كذلك إحساس بالعزة نحو المقومات الأساسية المعتمدة على التراث والتاريخ واللغة، لأن الأمة المهزومة نفسيا هـي التي تبتعد عن تراثها، وتتنكر لحضارتها، وتستعجم في لغتها، وتهمل ثقافتها التي تمثل عبقريتها ونتاجها في ماضيها، وتعبر عن تطلعاتها وأمانيها في مستقبلها، والثقافة المكونة لشخصية الأمة والمميزة لها هـي التي تعبر عن جذورها، وتكشف عن عبقريتها وتفردها، وما أضافت إلى الحضارة الإنسانية.

إن الشخصية الإسلامية تميزت في ماضيها بتفتحها على العالم، وتوجهها إلى ثقافات الإنسانية ومعارفها، وبوعيها المتجدد بحركة [ ص: 37 ] التاريخ، وبمواكبة التطور البشري، مما جعلها قادرة على أن تضيف الكثير إلى الإنسانية والحضارة.

فالشخصية الإسلامية كانت رائدة في حوار الحضارات، والتفتح على الثقافات باختلاف أماكنها وأزمانها، الأمر الذي يقتضي إعادة هـذا الدور؛ من منطلق ثقافتنا، وواقعنا المعتمد على عقيدتنا، كما يجب أن يكون، لا كما هـو كائن، وهذا يقتضي أيضا تربية الشخصية المسلمة المعاصرة على أساس مما ربي عليه الجيل الأنموذج بوسائل عصرية تتلاءم مع تطلعات الأجيال الصاعدة والعزائم الكبيرة. [ ص: 38 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية