الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
[ 6 ] الإعداد السياسي

تمهيد:

عالم اليوم عالم تتصارع فيه الأفكار السياسية، والعقائد المرتبطة بسياسات الأمم وفلسفاتها؛ لتبسط نفوذها وتحكم بها السيطرة على أكبر جزء من العالم إن لم يكن على العالم كله، ولعل البلاد الإسلامية هـي أكثر البلاد المستهدفة للسيطرة عليها ثقافيا، واستقطابها سياسيا، ولأن الدول في بلاد العالم الإسلامي غير ملتزمة التزاما كاملا بالإسلام في أنظمتها السياسية والاجتماعية والتربوية، لذا فإن الباب مفتوح فيها للتيارات المختلفة، والأفكار المتباينة، والملل والنحل باختلاف مصادرها وأهدافها، ويكون هـذا الأمر مشكلة تزعزع هـوية هـذه الشعوب، وتبلبل أفكار شبابها، وتمسخ عقيدتها، لذلك نجد الشباب المسلم متأرجحا في أفكاره السياسية بين اليمين واليسار والوسط، والمنتمي و " اللامنتمي " ، ونجد فيهم المنساق وراء كل فكر جديد أو مذهب سياسي، وفيهم السلبي الذي لا يبالي بشيء، والنشط الذي تستغله بعض الجهات، وفيهم المعجب بكل ما يأتي من الغرب أو الشرق، والكافر بكل شيء، وفيهم الانهزامي المستسلم اللابس لكل حالة لبوسها، ولكل عهد شعاره، وفيهم الانتهازي الذي يبحث لنفسه عن مكان في كل زمان وأوان (!! ) . [ ص: 153 ] وهذا الاضطراب كله، كما قلت، لعدم انتمائهم إلى دولة تستمد فكرها السياسي بشكل كامل من عقيدتها ونظرتها إلى الكون والحياة، ومن قيمها وثقافتها وتاريخها، لأن مثل هـذه الدولة تكون حريصة على تنشئة شبابها على فكرها السياسي؛ وتبني مناهجها الدراسية والتوجيهية ومؤسساتها التربوية والاجتماعية على رؤية واضحة ينشأ عليها شبابها، وتعمق وعيهم الوطني وفكرهم السياسي؛ حتى يكونوا في حصانة من الأفكار الوافدة، والمبادئ الغازية.

إن الشباب في العالم الإسلامي قد جرب النظريات والأفكار التي تبنتها الأحزاب السياسية جميعها، والتي كان نتاجها: القهر السياسي، والظلم الاجتماعي، والحريات المهضومة، والأوضاع الاقتصادية السيئة، والهزائم النفسية والعسكرية المتوالية، والاستسلام المهين للأعداء، وكان من نتائجها أيضا: ما يعانيه من الضياع وفقدان الثقة بالنفس والتاريخ، والحاضر، والمستقبل، نتيجة ما واجه ويوجه من تضليل إعلامي، وتأرجح في القيم والمعايير، وانقسام، وتطاحن، وتنابذ، وحروب ومنازعات بين أبناء البلد الواحد، والعقيدة الواحدة.

هذه الأسباب وغيرها تفرض حتمية الإعداد السياسي للشباب المسلم العربي للخروج به من أزمته السياسية، التي تتسبب في كثير من الأزمات الأخرى، ولا بد أن يستند هـذا الإعداد على رؤية واضحة، ومنهج متكامل؛ حتى يصل الشباب المسلم المعاصر إلى ما وصل إليه الشباب في عهد النبوة من مكانة وتقدير وصل بشاب منهم صغير إلى قيادة جيش من المسلمين ضم عددا من كبار الصحابة وأولي النهى والعزائم، والخبرات، والسبق في الإسلام، والجهاد، والصحبة. [ ص: 154 ]

الإطار العام لمنهج الإعداد السياسي ويمكننا أن نحدد إطارا عاما لهذا المنهج الإعدادي يتمثل في النقاط الرئيسة التالية:

أولا- تحديد مفهومات المصطلحات السياسية

يواجه الشباب كثيرا من الخلط والاضطراب في تحديد مفهومات المصطلحات السياسية، ولعل هـذا الخلط جاء نتيجة عوامل كثيرة، أهمها: الفردية في إطلاق مدلول المصطلح، واستعماله حيث يكون استعماله من خلال تصور الفرد المستعمل له، كما تأخذ بعض المصطلحات أكثر من مدلول ومعنى، حسب تعدد وجهات نظر من يستعملون المصطلح ويحددون دائرة استعماله دون اتفاق على وضعه وكيفية استعماله، وسنعرض لبعض هـذه المصطلحات لا لنحدد مفهوماتها - لأن هـذا ليس بإمكان شخص أو أشخاص - بل لإلقاء الضوء عليها، وهي:

مصطلح الوطنية والوطن

هذا المصطلح جديد في العالم الإسلامي؛ حيث لم يكن مفهوم الوطن والوطنية أن يرتبط الإنسان ببقعة من الأرض حددتها الأهواء السياسية من خارج العالم الإسلامي، فقد كان المسلمون يعتبرون بلاد الإسلام أو " دار الإسلام " كلها وطنا لهم.

تغير هـذا المفهوم تبعا لملابسات التي ارتبطت بإنهاء الخلافة الإسلامية وما ترتب على ذلك مما هـو معروف، ولم يكن المفهوم [ ص: 155 ] الإسلامي للوطن والوطنية بدعة، فقد كان الرومان ينظرون للوطن على أنه المكان الذي تتوفر للمرء فيه حقوق وواجبات سياسية، فالوطن هـو المكان الذي يمارس فيه الإنسان حريته ويبدي رأيه، وتبنى فيه الحياة على أساس من الحق والعدل، وقد ربط الأستاذ " محمد قطب " مفهوم المواطنة بمفهوم الإنسان، فإذا كان أهداف التعليم في البلاد الإسلامية تنص على أنها تعمل لإيجاد المواطن الصالح - وهذا مفهوم انتقل إلينا من الغرب - فإن الإسلام يهيئ الإنسان الصالح من حيث هـو إنسان، لا من حيث هـو مواطن ينتمي إلى بقعة من الأرض [1] .

وقد بدأ هـذا المصطلح في أداء دوره الذي رسم له في التفرقة بين الشعوب التي تربطها أعمق الأواصر وأمتنها في الأرض، بل أصبح يفرق بين أبناء الأمة في البقعة الواحدة، الأمر الذي يقتضي بذل الجهد من العلماء والمربين في تحديد معنى المصطلح، ونشره، لأن كتب التربية في الكليات والجامعات، وأهداف التعليم في البلاد العربية - ومعها أهداف المنظمة العربية للثقافة والعلوم - جميعا تكرس المفهوم غير الإسلامي للمصطلح. مصطلح الحرية

هذا المصطلح من أكثر المصطلحات اضطرابا في أذهان الشباب؛ إذ ارتبط في كثير من الأذهان بالممارسات الفردية، والفوضى في العلاقات، والتخلص من سلطة القوانين والقيم والأعراف الإنسانية السليمة التي عمقتها الأديان، كما أنها أصبحت مطية الانحرافات الفكرية والعقيدية. [ ص: 156 ] إن الحرية في المفهوم الإسلامي مسئولية مرتبطة بوجوده في الحياة، وهي: " حرية المسلم في تطبيقه للإسلام، وحريته في أن يدعو البشر للخضوع لسلطان الله: ( وأن اعبدوني هـذا صراط مستقيم ) وإذن فما دام الإنسان ضمن شعار العبودية لله فهو يملك كامل الحرية " .

ولما كان الإيمان بالله هـو مصدر سلوك المسلم فإن مظهر حرية المسلم هـو السلوك المرتبط بمنهج الله وطاعته والخضوع لشرعه في أمور الحياة كلها؛ فالحرية في مفهوم الإسلام هـي التي تضمن له السلامة في ماله وعرضه ونفسه، وهي التي تحدد الضوابط الحافظة للحريات، والمتمثلة بالتمسك بالدين، والخوف من الله، وتقواه، وقيم الإسلام وأخلاقياته؛ ووظيفة الدولة والمؤسسة التربوية أن تنظم هـذه الحريات وتراقبها على نطاق الأفراد والجماعات، فلا حرية في الاستجابة لغرائز النفس وشهواتها؛ لأن في ذلك تطاولا على حريات الآخرين. فالحرية هـي وسيلة المسلم للتقدم العلمي، والإبداع والابتكار، والجهاد والتضحية في سبيل دار الإسلام التي ينتمي إليها، والتي حفظت له الأجواء التي يمكنه فيها إبراز طاقاته وقدراته التي أودعها الله فيه. مصطلح القومية

يضطرب مفهوم هـذا المصطلح بين من يربطون القومية بالدين، وبين من يفصلونها عنه ويعتبرونها اتجاها سياسيا، سابقا على الإسلام، مع أن المفهوم الإسلامي لا يفصل بين القومية والدين؛ باعتبار القومية مجموعة المميزات اللغوية والثقافية والتاريخية والاجتماعية التي تميز جماعة من الناس عن غيرهم من الأمم، أما بعض المفاهيم فترى في القومية إطارا عنصريا يميز أمة عن غيرها بما يعليها عليهم، ويجعل لها الحق في [ ص: 157 ] التسلط على الآخرين واستغلالهم؛ دون اعتبار للجوانب الإنسانية. وقد شهد العالم موجة من هـذه القوميات التي استغلت واحتلت بدافع من هـذا المفهوم. ولم يقصد بإثارة موضوع القومية في العالم الإسلامي إلا تقسيم العرب إلى قوميات عنصرية تنتمي إلى الفرعونية، أو الفينيقية، أو الأفريقية، أو غيرها، مع أن اليهود قد جعلوا اليهودية واللغة العبرية المقومين الأساسيين لجمع شتات اليهود من العالم؛ في الوقت الذي يحاول فيه بعض المشبوهين فكريا وعقيديا الفصل بين الإسلام والقومية؛ مع تعدد المقومات التي تربط المسلمين عربا وغير عرب، هـي مقومات لغوية وجغرافية وحضارية وعقيدية وغيرها.

إن واجب التربية أن تحدد معنى هـذا المصطلح في مفهومه الإسلامي الصحيح البعيد عن العرقية والعصبية ونزعة الاستعلاء.

لذلك لا بد من تحديد مفهوم الكثير من المصطلحات على ضوء رؤية إسلامية صحيحة تشكل حصانة للشباب، فيتقدم ثابت الخطو، مستندا إلى قاعدة ثقافية وسياسية متينة.

ثانيا- تحديد الأهداف السياسية في إعداد الشباب

تقتضي ضرورة الإعداد السياسي للأمة خاصة والشباب عامة أن تتبلور أهدافنا السياسية بما يتلاءم مع إسلامنا وفكره ورؤيته؛ حيث يفتقد الشباب في مجتمعاتنا الرؤية الواضحة للأهداف المشتركة، وحيث يرى مجتمعا تسوده النزعات الفردية، والتفكير المصلحي، وتفصل فيه الشئون الدينية عن شئون الحياة الأخرى، سياسية واقتصادية، [ ص: 158 ] واجتماعية. وغياب الرؤية الواضحة للأهداف جاء نتيجة تعدد المصادر السياسية، وضعف الوعي السياسي، وعدم التنسيق بين وسائل التوجيه المختلفة.

ولذلك فإننا بحاجة أن نحدد أهدافنا التي تربي الشباب سياسيا على أسس جديدة، نذكر بعضها فيما يلي:

( أ ) تنمية الوعي السياسي السليم بإعطائهم حقوقهم السياسية، ومطالبتهم بواجباتهم أيضا بعد أن يكون المنهج قد وضح لهم النظريات التي تسود العالم أمام حكم الإسلام ونظرته السياسية، بحيث يعتمد الشباب على نفسه في جهاده السياسي، ومواجهته لتحديات الفكر السياسي الموجه للسيطرة والغزو الثقافي والفكري، وبحيث يكون في مستوى مواجهة مشكلات مجتمعاتهم بل المشاركة في حلها؛ وهذا الوعي هـو الذي يجنب الشباب التسخير السياسي، والانحراف، والتيارات الجارفة في الساحة السياسية، وهو الذي يعصمه من الدعاية السياسية، والبطولات الوهمية فيها، والإيحاءات ذات الأهداف البعيدة.

(ب ) تعميق الولاء السياسي الذي يسمو بالشباب من التعلق بقطعة أرض تحدد له فيها مواطنته؛ إلى مفهوم أوسع وأشمل للوطنية المرتبطة بالعقيدة، والمحصنة بالحرية، والممارسة بالشورى، وفي عالمنا نماذج من الدول الشيوعية التي يحارب فيها الشباب الشيوعي في كل مكان تتعرض فيه الشيوعية لخطر الزوال، فكل دولة شيوعية هـي وطن يدافع الشباب الشيوعي عنه، وهذه كانت نظرة المسلمين للوطن الإسلامي قبل أن يحرم [ ص: 159 ] شبابه من التنقل العلمي والثقافي والسياسي والسياحي بين ربوعه، وتوضع دون صلته بأخيه المسلم السدود والقيود.

إن العدالة والحرية يشكلان صمام الأمان لولاء الشباب لدينه وأرضه وحضارته وثقافته، وذاتيته، فإذا فقدهما معا أو واحدا منهما وهن ولاؤه، وضعفت وطنيته وحماسه، كما نشاهد اليوم، حيث لا فرق بين أن يعيش المرء في دولة يحكمها أبناؤها أو غير أبنائها، فكلاهما واحد وإن اختلفت السحنة، وتغير الاسم.

إن الحرية التي يحترمها الإنسان هـي التي تقوم على المسئولية، وتبنى على الكرامة الإنسانية، وتحترم فيها حريات الآخرين، وتؤخذ الأمور فيها بالشورى والرأي، مثل هـذه الحرية وهذا الوطن هـو الذي يعمل له الإنسان بإيجابية وحب وحرص، بل ويضحي بكل ما يملك في سبيل بقائه واستمراره.

(ج) تنمية الروح الجماعية

آيات كثيرة في القرآن الكريم تجعل تنمية الروح الجماعية في الفرد المسلم والجماعة المسلمة هـدفا من أهداف الإسلام وتعاليمه، وكذلك السنة النبوية، بل وتاريخ المسلمين الذين مارسوا التطبيق في واقع الحياة لهذه الروح التي تعتر المسلمين جسدا واحدا، يستشعرون أخوتهم في الله، ويتحابون في جلاله، ويعملون لهدف واحد، وطريق واحد، ويجاهدون عدوا واحدا... [ ص: 160 ] ( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ) [آل عمران:103 ] ( إنما المؤمنون إخوة ) [الحجرات:10 ].

ولهذه الروح الجماعية مظاهر إن توفرت في المسلمين حققوها، وواجب التربية اليوم العمل على تحقيقها وفق الممارسات العملية، وبعض هـذه المظاهر تتمثل فيما يلي:

( أ ) الاهتمام بأمور المسلمين كأنها أمور شخصية مهما صغرت: ( من أصبح ولم يهتم بأمور المسلمين فليس منهم ) [رواه البيهقي ].

(ب ) نصرة المسلمين في كل مكان من الأرض وأي زمان: ( وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق ) [الأنفال:72 ]، ( الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان إن كيد الشيطان كان ضعيفا ) [النساء:75 ].

(ج ) وحدة الولاء لله تعالى دون سواه: ( إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنوا الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم راكعون ) [المائدة:58 ].

(د ) وحدة النظر للمسلمين والكافرين؛ كلا على حدة: ( محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم ) [الفتح: 29 ]، ( أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين ) [المائدة: 54 ]. [ ص: 161 ] (هـ) وحدة الهدف في الوجود:

( وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) [الذاريات: 56 ]، ( الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور ) [الحج: 41 ].

(و ) التواصي بالحق والعمل له، والتواصي بالصبر التعاون فيه: ( والعصر إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر ) [سورة العصر ]، ويدخل فيه الأمر بالمعروف الأكبر وهو أن تكون كلمة الله هـي العليا، وكلمة الذين كفروا السفلى، والنهي عن المنكر الأكبر وهو أن يكون منهج الله غائبا عن الحياة وشرعه متروكا، وأن يتحاكم الناس في حياتهم كلها إلى غير منهج الله وشرعه ونظامه:

( والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويطيعون الله ورسوله أولئك سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم ) [التوبة: 71 ]، وغير هـذا كثير مما كتبت عنه المؤلفات والمقالات؛ من مظاهر الروح الجماعية التي تحكم العلاقة بين المسلمين، وتحقق لهم ما يتطلعون إليه في حياتهم الدنيا والآخرة. [ ص: 162 ]

(د ) تنمية روح الجهاد

مصطلح "

الجهاد " الذي استحدثه الإسلام مصطلح يجمع مفهوم الكلمات التي عرفها الناس مثل: الحرب، والقتال، والنضال، والكفاح... وهو مصطلح يطلق على معالجات الإنسان لنفسه وأهوائه وغرائزه، ومعالجاته لمجتمعه من الانحراف الخلقي والعقيدي، وحماية مقدساته ومبادئه لإصلاح المجتمع وسيادة العدل والمساواة بين الناس، ثم هـو الجهد الذي يبذله الإنسان في تحرير الأمم والبلدان من عبادة غير الله وإرجاع البشر وإخضاعهم لعبادة الله لتكون كلمة الله هـي العليا، ومنهجه هـو السائد، وشريعته النافذة. ولتنمية روح الجهاد في الشباب فإننا بحاجة إلى اقتفاء أثر الرسول صلى الله عليه وسلم في الطريق الذي سلكه لإعداد المسلمين للجهاد، وحمل أمانة الدعوة، وقد تمثلت خطوات الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يلي:

(1 ) تأسيس الدعوة في نفوس المسلمين، بتحرير قلوبهم وعقولهم من تقاليد الجاهلية، وعادات الوثنية، والانحرافات الشخصية، والأدواء الاجتماعية، والشهوات الجسدية، وهي خطوة تحتاج إلى صدق في التوجه، وإخلاص في النية، وتجرد من أغلال النفس ووساوس الشيطان، وبهرج الحياة وزينتها وإغرائها.

(2 ) بناء الأخوة الإسلامية الحقة على أساس من العقيدة السامية، والأدب الرفيع، والخصال الحميدة، والتجرد من الأثرة والشح والأنانية؛ وفي تاريخ الإسلام نماذج للأخوة لم تعرفها البشرية من قبل، ولن تتكرر إلا بعودة مخلصة للإسلام. [ ص: 163 ] (3 ) القيادة الحكيمة ذات الأسلوب الهادئ، والأثر العميق، والأهداف والواضحة المخططة، والتحرك الواعي، والدعوة الحسنة التي تستقطب الناس إليها في هـدوء، وتنتشر في ثبات، وتتواصل في النفوس، وتغير وجه الحياة وأعراف الناس، وتعم المجتمع لتعلن عن نفسها في الوقت المناسب لها، وذلك كله بفضل القيادة الواعية الموجهة المخلصة.

(4 ) الصبر على مشاق الدعوة، وتحمل نتائج العمل في مجتمعات وأنظمة معادية، وقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم القدوة في ذلك، فقد اتهم بكل تهمة باطلة، وأغري بكل ما يغرى به إنسان، ونال أنواعا من التعذيب والحرب، تأسى به أتباعه فصبروا على الأذى، وتحملوا ما لا يطيقه بشر، وهاجر من هـاجر بدينه، وصمد من صمد على الأذى، وكلهم راضي النفس، هـانئ البال، متحرر العقل والقلب.

(5 ) الأمل في نتائج العمل الجاد المخلص، ولو كان محفوفا بما يدفع إلى اليأس والقنوط، فقد كان الرسول صلى الله عليه وسلم وصحبه رضوان الله عليهم في يقين وثقة بأن الله ناصر دينه، ومتم نعمته، وأن الحق منتصر والبغي والظلم في إدبار، وأن الأمل في الله كبير، وقد ظهر ذلك في رد الرسول صلى الله عليه وسلم لملك الجبال الذي جاء مع جبريل ليطبق على قومه الجبلين، فرد عليه بأمله في أن يخرج من أصلاب المعاندين المكذبين من قومه من يحمل راية الدين في بقاع الأرض المختلفة، وقد كان...

إن تنمية روح الجهاد وإعداد الشباب له إعدادا متكاملا ليكون كل شاب في الدولة مقاتلا في سبيل الله لا مزاحما في سبيل الشهوات، كما [ ص: 164 ] يقول الدكتور " يوسف القرضاوي " ، إنما يتم بأمور نلخصها منه فيما يلي:

( أ ) فرض التجنيد الإجباري على الشباب، وتدريبهم على فنون القتال، وأنواع الأسلحة المختلفة، ويكون استمراريا دوريا حتى لا تفتر الروح القتالية فيهم.

(ب ) الإعداد الفكري والنفسي المستمر للترغيب في الجهاد والتشويق إليه، بحيث يكونون مستعدين للجهاد في أي وقت وأي حالة.

(ج ) محاربة أخلاق الضعف والخنوع ومظاهر الميوعة والتخنث القاتلة للرجولة والكرامة والعزة.

(د ) ربط الجهاد بعقيدة الأمة التي تؤمن بها وتموت في سبيلها [2] .

ثالثا- تحديد وسائل التربية والإعداد السياسي للشباب

إن الدولة من خلال مؤسساتها التربوية، ومنظماتها المختلفة، وأجهزتها التوجيهية تستطيع وضع البرامج التي تعد الشباب سياسيا باتباع وسائل مختلفة، ويمكننا أن نحدد بعض هـذه الوسائل في خطوطها العامة فيما يلي:

(1 ) إعادة كتابة تاريخ المسلمين لأن التاريخ الإسلامي الذي يدرس للشباب في المدارس والجامعات يحتوي على كثير من المفهومات [ ص: 165 ] المغلوطة التي تجعل التاريخ الإسلامي تاريخ الفتن والحروب والخلافات والدسائس، وهذا التشويه راجع إلى أن الذين تعرضوا لكتابة هـذا التاريخ وتدريسه ليسوا مؤهلين له؛ وإن كان الكثير منهم يحمل الدرجات الجامعية العليا، لأن التأريخ، كما حدده ابن خلدون في مقدمته، هـو الذي يحتاج المتعرض له إلى " العلم بقواعد السياسة، وطبائع الموجودات، واختلاف الأمم، والبقاع، والأعصار؛ في السير والأخلاق، والعوائد، والنحل، والمذاهب، وسائر الأحوال، والإحاطة بالحاضر من ذلك، ومماثلة ما بينه وبين الغائب من الوفاق، أو بون ما بينها من الخلاف، وتعليل المتفق منها والمختلف، والقيام بمعرفة أصول الدول والملل، ومبادئ ظهورها، وأسباب حدوثها، ودواعي كونها، وأحوال القائمين بها وأخبارهم، حتى يكون مستوعبا لأسباب كل خير، وحينئذ يعرض خبر المنقول على ما عنده من القواعد والأصول فإن وافقها وجرى على مقتضاها كان صحيحا وإلا زيفه وأعرض عنه [3] .

ثم بين ابن خلدون العوامل التي أدت إلى الخلل في كتابه التاريخ والتي نختصرها في النقاط الآتية:

1- عدم التحري في النقل للروايات التاريخية التي اعتمد المؤرخون فيها على كتب سبقتهم، ولم تكن من الدقة العلمية بحيث يعتمد عليها.

2- المبالغة في رواية الأخبار بما يتعارض مع الواقع، وذلك لأسباب مختلفة. [ ص: 166 ] 3- تلفيق بعض الأخبار لأسباب سياسية وغير سياسية، وتبرير بعض التصرفات.

4- انعدام التخصص والأمانة في كتابة التاريخ حتى استخف به العوام ومن لا رسوخ لهم في المعارف فخاضوا فيه.

5- تفسير التاريخ بمقاييس العصر وعدم مراعاة تبدل الأجيال واختلاف الأحوال والأعصار [4] .

والذي يؤخذ على كتب التاريخ المعتمدة، كتاريخ الطبري وابن كثير والزمخشري انشغالهم بالإسرائيليات بما فيها من خيال ومبالغة لا تقبل في مناهج البحث العلمي. ولعل كثيرا من الباحثين قد وجدوا لهم العذر في ذلك؛ حيث كانت نياتهم طيبة، وحيث عمدوا بذلك لتفسير قصص القرآن تاريخيا، وحيث كانت طريقتهم مقبولة آنذاك في تفسير التاريخ، فهم قد اهتموا في ذكر الرواية بجانب السند ولم يقفوا موقف الناقد الذي يقبل ويرفض، ويناقش ويحلل من خلال رؤية إسلامية؛ مما أدى إلى أن يأخذ كل من كتبهم حسب دوافعه، وخدمة أغراضه.

وأكثر ما لفق بالتاريخ الإسلامي ما ارتبط ببعض رموز هـذه الأمة، كسيدنا عثمان وعلي ، وأبي موسى الأشعري ، وعمرو بن العاص ، ومعاوية بن أبي سفيان ، وأم المؤمنين عائشة .. وغيرهم من خيار هـذا السلف؛ وخيار أمة محمد صلى الله عليه وسلم قاطبة رضوان الله عليهم.

إن مناهج التاريخ في المدارس والجامعات العربية والإسلامية يجب أن تكون بداية لإعادة النظر في كتابة التاريخ الإسلامي بيد من تتوفر فيهم [ ص: 167 ] الأهلية والكفاية للقيام بهذا العمل، حتى يدرس الشباب التاريخ الإسلامي الذي غير وجه الكون وأعلى قيمة الإنسان، وبني أسمى حضارة عرفتها البشرية، وفرخ رجالا ما جاد الزمان بمثلهم ولن يجود، حتى تنشأ أجيال هـذه الأمة معتزة بتاريخها، متباهية بماضيها، حاملة ثمارها ودعوتها لإنقاذ الإنسانية مما هـي فيها.

(2 ) إبراز سير الأبطال ومواقفهم الجهادية إن التاريخ السياسي للمسلمين هـو التاريخ الذي صنعه الرجال، وأبرزته البطولة الإسلامية، وفي تاريخ المسلمين رجال أفذاذ ومواقف فذة؛ إذا ما أبرزت بصورتها الصحيحة فإن آثارها في النفوس تكون أعمق من الدراسة المجردة، فالأشخاص أناس مثلنا لا فرق بيننا وبينهم في الشكل، فما الذي ميزهم هـذا التمييز؟

ما الذي غير ابن الخطاب عما كان عليه في الجاهلية؟ وما الذي فعل خالد وهو ابن الوليد - عدو الله ورسوله - الذي أنزل الله فيه قرآنا يتلى؟ وما الذي جعل من الخنساء نائحة العرب الأولى تحمد الله على تقديم أربعة أبنائها للشهادة في سبيل الله وتفرح بذل؟ وأي امرأة في التاريخ قالت لابنها ما قالته أسماء بنت أبي بكر لابنها عبد الله بن الزبير رضوان الله عليهم؟

إن الأمثلة والشواهد لا تحصى في مواقف المسلمين السياسية في الماضي والحاضر، وقليل منها يكفي لإذكاء روح البطولة والجهاد والتربية السياسية في نفوس الشباب. [ ص: 168 ]

رابعا- تعميم التربية العسكرية في المراحل الدراسية

لأن تربية الشباب تربية عسكرية رجولية من أهداف الإسلام لقيادة البشرية قيادة تقوم على قوة الحق، فالقرآن يطلب منا إعداد قوتنا دائما لنشر الدين، وإرهاب أعداء الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. وقوة البشر المعنوية والروحية هـي التي تعطي للقوة المادية تأثيرا وفعالية، كما أن وجيهات الرسول صلى الله عليه وسلم في هـذا الجانب تتحدث عن أفضلية المؤمن القوي على الضعيف، وأن خير الناس رجل ممسك بعنوان فرسه؛ مستعد دائما لتلبية داعي الجهاد ، والدفاع ضد الأخطار التي تصيب الدولة الإسلامية والمجتمع المسلم، وأن الله حرم النار على نوعين من المجاهدين: رجل اغبرت قدماه في سبيل الله؛ وعين باتت تحرس في سبيل الله. وتوجيهات السنة تبشر العاملين في الصناعات الحربية والأسلحة بالجنة حيث لا يدخل السهم الرامي له والمنبل به فقط؛ بل وصانعه الذي احتسب عمله لله وفي سبيل إعلاء كلمته سبحانه وتعالى.

ولأهمية المعدات الحربية استثنى الرسول صلى الله عليه وسلم من اللهو تأديب الفرس، والرمي بالقوس، وحذر الرسول صلى الله عليه وسلم الرجل يترك ما تعلم من فنون القتال بعد أن من الله عليه بتعلمها، فليس من المسلمين من تعلم الرمي وتركه أو نسيه، بمعنى أنه لم يطور فنون القتال التي تعلمها حسب [ ص: 169 ] مقتضيات الزمن، والحاجة. وقد " روي منسوبا لسيدنا عمر وغيره: " علموا أولادكم السباحة والرماية وركوب الخيل، ومروهم أن يثبوا على الخيل وثبا " . وقد أصبحت مجالات التربية العسكرية واسعة؛ بل أصبحت من العلوم التي يتخصص فيها وتتسابق الأمم في تعليم قادة جيوشها لها، وتعددت فنون القتال بين القتال الفردي والقتال ضمن مجموعة، وحرب العصابات، كما تعددت التدريبات حسب أمكنة القتال، كالقتال في المدن، أو الصحراء، أو الجو، أو البحر، أو في الغابات وغيرها، كما تعددت وسائل القتال، كالقتال بالطائرة، أو الدبابة، أو الزوارق، أو السفن، وكل هـذه الفنون والأنواع والوسائل يحتاج الشباب إلى التدرب عليها وممارستها؛ خاصة وأن العالم في تاريخه الطويل لا يرهب إلا القوة، ولا يتعايش في سلام إلا مع الأقوياء، بل إن الدعوات العظيمة هـي التي تسندها القوة المرهوبة، وتحرسها القوة المسنودة بالحق. فواجب المسلمين أن يربوا شبابهم تربية عسكرية وفق التوجيهات الآتية:

1- إعداد آلة الحرب والقتال: ( وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم ) [الأنفال:60 ].

2- التدريب على فنون القتال تبعا لتطور الأسلحة ونوعيتها: ( ألا إن القوة الرمي، ألا إن القوة الرمي ) [رواه مسلم ( إن الله تعالى ليدخل بالسهم الواحد ثلاثة نفر الجنة: صانعه يحتسب في عمله الخير، والرامي به، والممد به ) . [ ص: 170 ] 3- أن يكون أساسه النظام والتعلم، وفي سبيل الله لا في سبيل أعراض الدنيا: ( إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص ) [الصف:4 ].

4- الدفاع عن الدين والنفس: ( أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير ) [الحج: 39 ]، ( وجاهدوا في الله حق جهاده هـو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ) [الحج:78 ].

5- للنصر أسبابه وللهزيمة أسبابها: ( يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون ) [الأنفال: 65 ].

6- الثبات للأعداء وعدم التولي مهما كانت الأسباب: ( يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة فقد باء بغضب من الله ومأواه جهنم وبئس المصير ) [الأنفال: 15-16 ]، [ ص: 171 ] ( يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون وأطيعوا الله ورسوله ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم واصبروا إن الله مع الصابرين ) [الأنفال: 45-46 ].

7- قتال الكفار في كل زمان ومكان، خاصة في دار الحرب: ( يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة ) [التوبة:123 ]،

( فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق فإما منا بعد وإما فداء حتى تضع الحرب أوزارها ) [محمد: 4 ]،

( وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ) [الأنفال:39 ]،

( قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قوم مؤمنين ويذهب غيظ قلوبهم ) [التوبة:14-15 ].

إن منهج الإسلام في التربية العسكرية وإعداد الأمة، أمة الدعوة والجهاد ، يحتاج إلى مؤلفات من المتخصصين في هـذا المجال حتى يكون كل مسلم على استعداد دائم لأداء واجبه في القتال؛ نصرة لدين الله ونشرا له، وإزالة للمعوقات في طريقه على أساس أنه واجب لا تستقيم الحياة بدونه. [ ص: 172 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية