الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              مسألة إذا اختلفت الأمة على قولين ثم رجعوا إلى قول واحد صار ما اتفقوا عليه إجماعا قاطعا عند من شرط انقراض العصر ويخلص من الإشكال . أما نحن إذا لم يشترط فالإجماع الأول ولو في لحظة قد تم على تسويغ الخلاف ، فإذا رجعوا إلى أحد القولين فلا يمكننا في هذه الصورة أن نقول : هم بعض الأمة في هذه المسألة كما ذكرناه في اتفاق التابعين على أحد قولي الصحابة فيعظم الإشكال .

              وطرق الخلاص عنه خمسة : أحدهما : أن نقول هذا محال وقوعه وهو كفرض إجماعهم على شيء ثم رجوعهم بأجمعهم إلى خلافه ، أو اتفاق التابعين على خلافه والشارطون لانقراض العصر يتخذون هذه المسألة عمدة لهم ويقولون مثلا : إذا اختلفوا في مسألة النكاح بلا ولي فمن ذهب إلى بطلانه جاز له أن يصر عليه فلم لا يجوز للآخرين أن يوافقوه مهما أظهر لهم دليل البطلان ؟ وكيف يحجر على المجتهد إذا تغير اجتهاده أن يوافق مخالفه ؟ قلنا : هذا استبعاد محض ، ونحن نحيل ذلك ; لأنه يؤدي إلى تناقض الإجماعين ، فإن الإجماع الأول قد دل على تسويغ الخلاف وعلى إيجاب التقليد على كل عامي لمن شاء من المجتهدين ، ولا يكون الاتفاق على تسويغ ذلك إلا عن دليل قاطع أو كالقاطع في تجويزه ، وكيف يتصور رفعه ، وإحالة وقوع هذا التناقض في الإجماعين أقرب من التحكم باشتراط العصر ؟ ثم يبقى الإشكال في اتفاق التابعين بعد انقراض العصر الأول على اختلاف قولين .

              ثم لا خلاف في أنه يجوز الرجوع إلى أحدهما في القطعيات كما رجعوا إلى قتال المانعين للزكاة بعد الخلاف وإلى أن الأئمة من قريش ; لأن كل فريق يؤثم مخالفه ولا يجوز مذهبه بخلاف المجتهدات ، فإن الخلاف فيها مقرون بتجويز الخلاف وتسويغ الأخذ بكل مذهب أدى إليه الاجتهاد من المذهبين . والمخلص الثاني اشتراط انقراض العصر ، وهو مشكل فإن اشتراطه تحكم . والمخلص الثالث اشتراط كون الإجماع مستندا إلى قاطع لا إلى قياس واجتهاد ، فإن من شرط هذا يقول لا يحصل من اختلافهم إجماع على جواز كل مذهب بل ذلك أيضا مستند إلى اجتهاد ، فإذا رجعوا إلى واحد فالنظر إلى ما اتفقوا عليه لتعين الحق بدليل قاطع في أحد المذهبين ، وهو [ ص: 157 ] مشكل ; لأنه لو فتح هذا الباب لم يكن التعلق بالإجماع إذ ما من إجماع إلا ويتصور أن يكون عن اجتهاد ، فإذا انقسم الإجماع إلى ما هو حجة وإلى ما ليس بحجة ولا فاصل سقط التمسك به وخرج عن كونه حجة ، فإنه إن ظهر لنا القاطع الذي هو مستندهم فيكون الحكم مستقلا بذلك القاطع ومستندا إليه لا إلى الإجماع ، ولأن قوله عليه السلام : { لا تجتمع أمتي على الخطأ } لم يفرق بين إجماع وإجماع .

              ولا يتخلص من هذا إلا من أنكر تصور الإجماع عن اجتهاد ، وعند ذلك يناقض آخر كلامه وله حيث قال : اتفاقهم على تسويغ الخلاف مستنده الاجتهاد . المخلص الرابع : أن يقال : النظر إلى الاتفاق الأخير فأما في الابتداء فإنما جوز الخلاف بشرط أن لا ينعقد إجماع على تعيين الحق في واحد . وهذا مشكل ، فإنه زيادة شرط في الإجماع والحجج القاطعة لا تقبل الشرط الذي يمكن أن يكون وأن لا يكون ، ولو جاز أن يقال الإجماع الثاني ليس بحجة بل إنما يكون حجة بشرط أن لا يكون اتفاقا بعد اختلاف ، وهذا أولى ; لأنه يقطع عن الإجماع الشرط المحتمل . المخلص الخامس : هذا وهو أن الأخير ليس بحجة ولا يحرم القول المهجور ; لأن الإجماع إنما يكون حجة بشرط أن لا يتقدم اختلاف ، فإذا تقدم لم يكن حجة .

              وهذا أيضا مشكل ; لأن قوله عليه السلام : { لا تجتمع أمتي على الخطأ } يحسم باب الشرط ويوجب كون كل إجماع حجة كيف ما كان ، فيكون كل واحد من الإجماعين حجة ويتناقض ، فلعل الأولى الطريق الأول ، وهو أن هذا لا يتصور ; لأنه يؤدي إلى التناقض ، وتصويره كتصوير رجوع أهل الإجماع عما أجمعوا عليه ، وكتصوير اتفاق التابعين على خلاف إجماع الصحابة وذلك مما يمتنع وقوعه بدليل السمع فكذلك هذا . فإن قيل : فإذا ذهب جميع الأمة من الصحابة إلى العول إلا ابن عباس وإلى منع بيع أمهات الأولاد إلا عليا ، فإذا ظهر لهما الدليل على العول وعلى منع البيع فلم يحرم عليهما الرجوع إلى موافقة سائر الأمة ، وكيف يستحيل أن يظهر لهما ما ظهر للأمة ؟ ومذهبكم يؤدي إلى هذه الإحالة عند سلوك الطريق الأول .

              قلنا : لا إشكال على الطريق الأول إلا هذا ، وسبيل قطعه أن يقال : لا يحرم عليهما الرجوع لو ظهر لهما وجه ذلك ، ولكنا نقول : يستحيل أن يظهر لهما وجه أو يرجعا لا لامتناعه في ذاته لكن لإفضائه إلى ما هو ممتنع سمعا ، والشيء تارة يمتنع لذاته وتارة لغيره كاتفاق التابعين على إبطال القياس وخبر الواحد ، فإنه محال لا لذاته لكن لإفضائه إلى تخطئة الصحابة أو تخطئة التابعين كافة ، وهو ممتنع سمعا والله أعلم .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية