الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              الفصل الثاني من الفن الأول النظر في المعاني المفردة

              النظر في المعاني المفردة . ويظهر الغرض من ذلك بتقسيمات ثلاثة : الأول : أن المعنى إذا وصف بالمعنى ونسب إليه وجد إما ذاتيا وإما عرضيا وإما لازما وقد فصلناه . والثاني أنه إذا نسب إليه وجد إما أعم كالوجود بالإضافة إلى الجسمية ، وإما أخفى كالجسمية بالإضافة إلى الوجود ، وإما مساويا كالمتحيز بالإضافة إلى الجوهر عند قوم وإلى الجسم عند قوم .

              الثالث : أن المعاني باعتبار أسبابها المدركة لها ثلاثة : محسوسة ومتخيلة ومعقولة ; ولنصطلح على تسمية سبب الإدراك قوة ، فنقول في حدقتك معنى به تميزت الحدقة عن الجبهة حتى صرت تبصر بها ، وإذا بطل ذلك المعنى [ ص: 28 ] بطل الإبصار ، والحالة التي تدركها عند الإبصار شرطها وجود المبصر ، فلو انعدم المبصر انعدم الإبصار وتبقى صورته في دماغك كأنك تنظر إليها .

              وهذه الصورة لا تفتقر إلى وجود المتخيل ، بل عدمه وغيبته لا تنفي الحالة المسماة تخيلا وتنفي الحالة التي تسمى إبصارا . ولما كنت تحس بالتخيل في دماغك لا في فخذك وبطنك فاعلم أن في الدماغ غريزة وصفة بها يتهيأ للتخيل وبها باين البطن والفخذ كما باين العين الجبهة والعقب في الإبصار بمعنى اختص به لا محالة والصبي في أول نشئه تقوى فيه قوة الإبصار لا قوة التخيل ; فلذلك إذا ولع بشيء فغيبته عنه وأشغلته بغيره اشتغل به ولها عنه .

              وربما يحدث في الدماغ مرض يفسد القوة الحافظة للتخيل ولا يفسد الإبصار فيرى الأشياء ولكنه كما تغيب عنه ينساها ، وهذه القوة يشارك البهيمة فيها الإنسان ; ولذلك مهما رأى الفرس الشعير تذكر صورته التي كانت له في دماغه فعرف أنه موافق له وأنه مستلذ لديه فبادر إليه ، فلو كانت الصورة لا تثبت في خياله لكانت رؤيته لها ثانيا كرؤيته لها أولا حتى لا يبادر إليه ما لم يجربه بالذوق مرة أخرى .

              ثم فيك قوة ثالثة شريفة يباين الإنسان بها البهيمة تسمى عقلا محلها إما دماغك وإما قلبك ، وعند من يرى النفس جوهرا قائما بذاته غير متحيز محلها النفس . وقوة العقل تباين قوة التخيل مباينة أشد من مباينة التخيل للإبصار ، إذ ليس بين قوة الإبصار وقوة التخيل فرق ، إلا أن وجود المبصر شرط لبقاء الإبصار وليس شرطا لبقاء التخيل ، وإلا فصورة الفرس تدخل في الإبصار مع قدر مخصوص ولون مخصوص وبعد منك مخصوص ، ويبقى في التخيل ذلك البعد وذلك القدر واللون وذلك الوضع والشكل حتى كأنك تنظر إليه .

              ولعمري فيك قوة رابعة تسمى المفكرة شأنها أن تقدر على تفصيل الصور التي في الخيال وتقطيعها وتركيبها وليس لها إدراك شيء آخر ، ولكن إذا حضر في الخيال صورة إنسان قدر على أن يجعلها نصفين فيصور نصف إنسان ، وربما ركب شخصا نصفه من إنسان ونصفه من فرس ، وربما تصور إنسانا يطير إذ ثبت في الخيال صورة الإنسان وحده وصورة الطير وحده ; وهذه القوة تجمع بينهما كما تفرق بين نصفي الإنسان .

              وليس في وسعها ألبتة اختراع صورة لا مثال لها في الخيال بل كل تصوراتها بالتفريق والتأليف في الصور الحاصلة في الخيال ، والمقصود أن مباينة إدراك العقل لإدراك التخيل أشد من مباينة التخيل للإبصار ، إذ ليس للتخيل أن يدرك المعاني المجردة العارية عن القرائن الغريبة التي ليست داخلة في ذاتها ، أعني التي ليست ذاتية كما سبق ، فإنك لا تقدر على تخيل السواد إلا في مقدار مخصوص من الجسم ومعه شكل مخصوص ووضع مخصوص منك بقرب أو بعد ومعلوم أن الشكل غير اللون والقدر غير الشكل ; فإن المثلث له شكل واحد صغيرا كان أو كبيرا .

              وإنما إدراك هذه المفردات المجردة بقوة أخرى اصطلحنا على تسميتها عقلا فيدرك السواد ويقضي بقضايا ويدرك اللونية مجردة ويدرك الحيوانية والجسمية مجردة وحيث يدرك الحيوانية قد لا يحضره الالتفات إلى العاقل وغير العاقل وإن كان الحيوان لا يخلو عن القسمين ; وحيث يستمر في نظره قاضيا على الألوان بقضية قد لا يحضر معنى السوادية والبياضية وغيرهما .

              وهذه من عجيب خواصها وبديع أفعالها ، فإذا رأى فرسا واحدا أدرك الفرس المطلق الذي يشترك فيه الصغير [ ص: 29 ] والكبير والأشهب والكميت والبعيد منه في المكان والقريب ، بل يدرك الفرسية المجردة المطلقة متنزهة عن كل قرينة ليست ذاتية لها ، فإن القدر المخصوص واللون المخصوص ليس للفرس ذاتيا بل عارضا أو لازما في الوجود ، إذ مختلفات اللون والقدر تشترك في حقيقة الفرسية وهذه المطلقات المجردة الشاملة لأمور مختلفة هي التي يعبر عنها المتكلمون بالأحوال والوجوه والأحكام ويعبر عنها المنطقيون بالقضايا الكلية المجردة ويزعمون أنها موجودة في الأذهان لا في الأعيان ، وتارة يعبرون عنها بأنها غير موجودة من خارج بل من داخل - يعنون خارج الذهن وداخله - ويقول أرباب الأحوال : إنها أمور ثابتة ، تارة يقولون أنها موجودة معلومة وتارة يقولون لا موجودة ولا معلومة ولا مجهولة ، وقد دارت فيه رءوسهم وحارت عقولهم .

              والعجب أنه منزل ينفصل فيه المعقول عن المحسوس ، إذ من ههنا يأخذ العقل الإنساني في التصرف وما كان قبله كان يشارك التخيل البهيمي فيه التخيل الإنساني . ومن تحير في أول منزل من منازل العقل كيف يرجى فلاحه في تصرفاته .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية