الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

ظاهرة التطرف والعنف (من مواجهة الآثار إلى معالجة الأسباب) [الجزء الثاني]

نخبة من الباحثين

الصراع في الحضارة الغربية

- فلسفة الصراع:

لذلك فقد يكون من المفيد أن نفتح بعض النوافذ على مسيرة الحضارة الغربية، التي تشكل (الآخر) ونقدم بعض النماذج الفكرية والسلوكية على الموروث الثقافي الغربي، لعلها تفيد القارئ والباحث في تفسير الكثير من إفرازاتها وعوامل تشكيلها وصنع شاكلتها الثقافية، التي تعمل عليها وتتعامل من خلالها؛ لأن الثقافة هي البوصلة الحقيقية لتحديد الوجهة وتغذية الحركة.

ونحن عندما نعرض لهذه الألوان من العنف والصراع والمواجهة، التي طبعت الحضارة الغربية ورافقت مسيرتها ولا تزال، لكن بأشكال وألوان مستحدثة ومجددة، لا نقصد بذلك التراشق الكلامي واستبدال الحوار بالمواجهة، والسقوط فيما يراد لنا من (الآخر)، وجرنا إلى ما يريد، وصناعة ردود أفعالنا، بقدر ما هي محاولة لتسهيل التفسير والفهم والمقاربة والاستنتاج، لعل ذلك يحقق السبيل للفهم والتفاهم والوقاية الحضارية.

أما قدرة الحضارة الغربية على التجدد، والتجاوز، وصناعة المسوغات، وصناعة الأعداء، وشن المعارك تحت شتى المسميات، ومحرضات التقدم والإبداع والإنتاج، وعجزنا عن التجاوز، فلذلك أسباب ومجالات أخرى. [ ص: 122 ]

والحقيقة التي لا تقبل اللبس أن نسق الحضارة الغربية، أو بشكل أدق الثقافة الغربية بمختلف ألوان طيفها الديني والسياسي، من كاثوليكي إلى أرثوذكسي إلى بروتستانتي، ومن إقطاعي إلى اشتراكي إلى رأسمالي، والشواهد أكثر من أن تحصى، وسوف نأتي على نماذج منها، إنما قام على فكرة الصراع، بمعنى أن جدلية الحياة في الثقافة الغربية إنما هي الصراع والمواجهة، واستمرارها الحضاري يفترض أو يتطلب افتراض وجود العدو المحرض للحركة، الضامن للتماسك وعدم الانفجارات الداخلية، وفي حال عدم وجود عدو يؤدي هذا الدور فليصنع العدو، حتى ولو وهما.

والأخطر في هذه الثقافة أن الرؤية الدينية، أو العقيدة الدينية، في الحضارة الغربية، لم تبرأ أو تستطيع أن تتنـزه عن فكرة الصراع، حيث تنطلق موروثاتها من الفكر اليوناني والروماني، من الصراع بين الآلهة، والصراع بين الإنسان والآلهة، حتى لقد انتهى الأمر بالكثير من المفكرين إلى إعلان صريح: "موت الإله"، الذي أعلن على لسان فيلسوفها الكبير "نيتشه" فأدى الأمر فيما بعد الحداثة إلى الموت المطلق، وتشيؤ الإنسان.

وجـدلية هذه الحضارة القائمـة على الصراع - والصراع أصلا يقوم على إلغاء وإنـهاء (الآخر) وإسقاطه صريعا - انطلقت من الفكرة الدينية - كما أسلفنا - لتحكم ثقافة الإنسان وفلسفته عن الكون والإنسان والحياة، لذلك نجد أن المحركات الحضارية والمسالك البشرية والتعاطي مع [ ص: 123 ] الحيـاة مسـكون بتلك الجـدلية.. فمن الصراع بين الآلهة في كل الثنائيات في التاريخ الديني الوثني من مثل الصراع بين آلهة النور والظلمة، والخصب والجدب، والخير والشر، وهكذا، هذا التوارث الثقافي والاجتماعي يمثل الجذور والمرجعيات للموروث الديني الغـربي.. حتى فـكرة "موت الإله" التي أشرنا إليها عند "نيتشه" هي في أصلها عقيدة وثنية، حيث كان العقل اليوناني يحكم بموت بعض الآلهة؛ وليست عقيدة الفداء عن طريق أحد الآلهة خارجة عن هذا الموروث، بل هي موجودة أيضا في الوثنيات القديمة، كما يذكر السير "آرثر فندلاي" في كتابه "صخرة الحق".

إن الصـراع بين الإنسـان والآلهة قاد العقل الغربي إلى فـكرة إلغاء الإله - لا إله والحياة مادة- فصـل الـدين عن تدبير الدنيا، فصل الناسـوت عن اللاهوت، إلى فكرة الصراع مع الطبيعة وقهر الطبيعة، والصراع بين الطبقات، والصـراع بين الألوان، والصراع بين الدين والعلم، وبين رجـال الكنيسـة ورجال السياسة، وبين الأجناس والأعراق، وبين الرجـل والمـرأة، والمـاركسيـة والرأسمالية، إلى صراع الأديان، وصراع القوميات والأمم والثقافات، وصراع الحضارات عند "صاموئيل هنتنغتون" ومن قبـله أو من بعـده "فوكوياما" الـذي اعتبر نـهاية التـاريخ الإنسـاني في انتصار الرأسمالية في صراعها مع جميع أعدائها وصرعهم، وانتهاء التاريخ. [ ص: 124 ]

ولعل من الطبيعي أن يولد التطرف في أحشاء هذه الحضارة أو في رحمها، ويستدعي ذلك اعتماد أن الثورة والعنف والإرهاب والتطرف والإرعاب هو الحل.

ولنأتي على بعض النماذج والأمثلة:

ففي بيئة هذه الحضارة نشأت الفاشية والنازية واللاسامية والستالينية واليمـين المتطرف وجميـع النـظرات العنـصرية، التي تعتـبر الهيمنـة والتسلط والقوة والمواجهة هي سبيل التعامل والتفوق، والشعار المرفوع دائما "البقاء للأقوى"، أو كما يقول الفيلسوف الإنكليزي "توماس هوبز" (1588-1679م) في عبارته المشهورة: "الإنسان للإنسان ذئب، والكل في حرب ضـد الـكل، والواحـد في حرب ضد المجموع"، والحياة مجال للقوة الباطشة بالنسبـة للأقوياء... ولا تزال تمـلأ المخيـلـة الأوروبيـة صور وقدرات "بطرس الناسك" الخارقة و"فرسان المعبد"، وأساطير البطـولات وشـلالات الدمـاء في الحروب الصليبية، التي استمرت قرنين من الزمـان، بـما يقـارب عشرة أجيـال، وينشأ الإنسان وتتشكل ثقافته في هذا المناخ، في التعليم والإعلام والتاريخ والرواية والأدب والقصة والحكايات الشعبية... إلخ.

ولـم تكن تلك الأفـكار في إطار المعـارف البـاردة، وإنمـا تطورت إلى مستـوى العقـائد الدينية، التي حـركت مزيـدا من الجنود للانـخراط [ ص: 125 ] في الحملات الصـليبية وقتل الآخرين والفتك بهم تقربا إلى الله، وما تزال تحرض وتدفع التحركات الجديدة والاستعمار الجديد وصناعة الأعداء الجدد، ليشكلوا أسبابا ومسوغا للتدخل ولمزيد من الإنتاج العسكري وشن الحملات العسكرية، التي تعتبر قمة العنف.

نعود إلى القول: بأن فكرة الصراع مع الإله والطبيعة والحياة والحضارات والثقافات، وفلسفته أن البقاء للأقوى الجبار والأكثر بطشا والأملك لأسلحة الفناء البشري، هو نسق ثقافي وحضاري يتطلب دائما إشاعة القلق ونشر حالات الخوف والرعب والتوتر وصناعة الأعداء وممارسة المواجهات؛ لأن ذلك هو وسيلة المدافعة الحضارية في مقابل (الآخر) ابتداء من الحروب المحلية والإقليمية إلى الحروب العالمية، ومن إبداع الأسلحة الفردية إلى إنتاج أسلحة الدمار الشامل.

التالي السابق


الخدمات العلمية