الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
رابعا: القواعد الشرعية الفقهية:

وهي التي تعرف في الدراسات الإسـلامية وفي أعمـال العلماء والفقهاء بقواعـد الفقه، أو القواعد الكلية الفقهية. وهي بمثابة الأطر الجامعة والصيغ الـكبرى والقوانين العامـة الـتي تنطبـق على جزئياتـها الفقـهيـة، وتتـفرع عنها الأحكام الشرعية الجزئية، فكأن هذه القواعد هي بمثابة القوالب التي تجمع هذه الأحكام الجزئية وتحويها وتحيط بها، من أجل تحقيق بعض الأهداف العلمية الشرعية والإنسانية، كالسيطرة على هذه الجزئيات الكثيرة المتكاثرة، والتحكم فيها وسرعة استحضارها، وإعمـالها لمعرفة حـكم شرعي أو توجيه ديني في قضية من قضايا الناس أو نازلة من نوازل العصر والحياة. [ ص: 26 ]

هذا فضلا عن ورود أهداف كثيرة أخرى، لأجلها دونت هذه القواعد الفقهية وفعلت وعمقت. وبناء على هذا، فإن القواعد الفقهية غير الأصول الشرعية الفقهية (أي غير أصول الفقه)، وبينهما من الفروق على المستوى المضموني المنهجي [1] ما يجعل كل واحد منهما علما قائما بذاته دالا على كيانه وبنيانه حاملا لاسمه وعنوانه. ولعل أبرز فرق بين القواعد الفقهية والأصول الشرعية ما يتصل بموضوع كل منهما، إذ يكون موضوع القواعد الصيغ الكلية الجامعة للجزئيات جمعا ماديا وشكليا وإجرائيا بصورة خالصة وكلية أو غالبة وطاغية.

أما موضوع الأصول الشرعية فهو النظر الاجتهادي الاستنباطي ببعده اللغوي والشرعي والسياقي والتاريخي والواقعي، وفي هذا من الجهد العقلي والتراكم الخبري والتداخلي المعرفي ما يجعل موضوع الأصول الشرعية أعمق من حيث الفكر والتعقل والتدبر، وأجمع من حيث المعلوم نقلا وعقلا، وأوسع من حيث الفئات الناظرة والعقول الفاحصة.

وبهذا يتبن الفرق الأبرز والأظهر بين المسلكين، وإن كانا يشتركان في الطابع الكلي الإجمالي الذي يظهر الجزئيات ويقرها، غير أن هذا الطابع الكلي في القواعد الفقهية، هو طابع الجمع والحصر والضبط والسيطرة [ ص: 27 ] لأغراض استحضارها والاستظهار بها. أما في الأصول الشرعية، فهو طابع النظر والتجريد والاستنباط والاستخراج بوسائط الأدلة النصية وبأدوات اللغة وقواعد الاستنباط المعروفة.

وهذا التفريق اصطلاح واستعمال، وهو مفرز معرفي ومنتج شرعي أبدعتـه فنون الإسـلام وحضارة المسلمين. ومعرفة هذه القواعد الفقهية مفيـدة جـدا في معـرفة الأحـكام الشـرعية العمـلية الجزئية، وذلك على أوجه عدة، ومنها:

- أن معـرفة القـواعد يعين على معرفة الجزئيات، وذلك من جهة الحصر والجمع وسرعة الاستحضار والاستظهار. فمن عرف - مثلا- قاعدة (لا واجب مع العجز)، أمكنه استحضار كل الجزئيات التي تكون فروعا لهذه القاعدة. ومن ذلك رفع وجوب تغيير المنكر على العاجز عن التغيير، وإعذار الجاهل بأحكام وفقه المعروف والمنكر في وضع السياسة الشرعية والآليات العملية لذلك، ونفي الحرج عن الساكت المتوقف الذي لم يتبين له وجه الحق مع بذلـه جهـده، وغـير ذلك من الشواهد التي يسهل إدراجها أو إخراجها بموجب القاعدة الفقهية العامة المذكورة.

- أن معرفة القواعـد يحقق العقـلية الكلية التي تنظر إلى الأمـور نظرة كلية لا جزئية ولا تبعيضية، أي تنظر إلى المنظور إليه من الأحكام والفروع والمعطيات نظرة يلحق فيها الظاهر مع الباطن والمبنى مع المعنى وغير ذلك. [ ص: 28 ]

ومن المهم كثيرا أن تتربى عقليات المسلمين (العلماء، المفتين، القضاة، الدعاة، المكلفين، ...) على المنهجية الكلية المتكاملة التي تتعامل مع (الذات) و (الآخر) تعاملا تكامليا وتناسقيا. ومعلوم أن ديننا دين كلي ودين عام لكل العالمين ولكل زمان ولكل مكان ولكل حال.

والمثـال التـقريبـي الإجمالي لذلك يتعلق بمعاملة المسلم للمخالف الـديـني ونمط هذه المعاملة، فهذا لا يتحدد بحكم جزئي أو معلومة مجتزأة أو دليل مجـزأ، وإنمـا يتحدد بمـوجب النظر الكلي المتكامل الجامع لجزئياته في ضـوء الكليات، والحاوي للـكليات التي تتفرع عنها الجزئيات. ولن يتـأتى هـذا النظر بهذا الطابع والخصيصة إلا من لدن صاحب اللب الكامل والعقل المتكامل والفهم العميق والإلمام الجامع والمانع بحسب مستطاع البشر.

- أن معـرفة القـواعد يحقـق مقصـودات الأحـكام وآثارها ونتائـجها الحقيقيـة الـتي لأجـلها شرع الله تعالى الأحكام الشرعية الجزئية، وذلك لأن هذه القواعد تشتمل على جملة العناصر الأساسية والحقـائق الاعتبـارية والمعنوية التي تؤدي إلى تحقيق هذه المقصودات والنتائج، إذ يكون تطبيق الأحكام الشرعية الجزئية نتاجا حقيقيا وحيويا وفعليا لحقائق القواعد ومدلولاتها ومكوناتها وليس نتاجا على خلاف أصله ومنشئه ومنبته. [ ص: 29 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية