الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
ثامنا: الخلافيات الشرعية:

ويراد بـها القضايا والمسائل والفروع التي اختلفت فيها أنظار العلماء ولم يحصل تجاهها اتفاق ما. وهي التي تعرف بعدة عناوين، منها (فقه الخلاف) أو (الخلاف الفقهي) أو (القضايا الخلافية) أو (المختلف فيه)، وغير المتفق عليه في أحكام الدين وعلومه ومعارفه.

وهذه الخلافيات شديدة الارتباط بالعلم الفقهي الفرعي أو بالفروع الفقهية والأحكام الجزئية، وإن كانت ترتبط بوجه ما بعلم العقيدة أو علم الكلام، وبعلم أصول ومناهج الاستنباط والاجتهاد، وبقضايا الفكر والمعرفة والحضارة والمدنية والعمران.

وارتباطها بالأحكام الفقهية الشرعية والجزئية مهم جدا من عدة جهات، فهو مهم من جهة تقرير الاختلاف في الجزئيات والفروع الفقهية ولذلك قامت المذاهب الفقهية وتقررت، وهو مهم -كذلك- من جهة تقرير أسباب هذا الاختلاف المتصلة بالنص الشرعي نفسه وبالمجتهد الناظر فيه، وبالواقع ومتغيراته ومعطياته، وهو مهم -أيضا- من جهة اعتماد الترجيح عند وجود الاختلاف مراعاة للمقاصد والمصالح ومسايرة للوقائع والعقول واستجابة للأمر بالامتثال وإعمال الدين وتفعيله وتقريره في النفوس والحياة.

وتستخلص من معرفة الخلافيات الشرعية قضية أدبية أخلاقية، تؤسس لصياغة ملكة خلافية، تعرف الآخر وتفهم حجته وتتفهم لمخالفته وتعذره [ ص: 38 ] وتنصفه وتتجاوز عن خطئه وسهوه وتعمل معه في دائرة تكاملية تواضعية تعاونية، من أجل تحري الصواب والوصول إلى الحق وبناء الخير المشترك وصلاح حياتنا جميعا.

ولا شك أن هذه القضية الأدبية الأخلاقية في علم الخلاف الفقهي والحضاري تعرف اصطلاحا بأدب الخلاف والحوار والتعامل والتعايش مع الآخر الفقهي والمذهبي والاجتهادي والحضاري بوجه عام.

هذا الأدب هو مسلكية أخلاقية لفظية وعملية تعبر عن معرفة علمية واسعة وشاملة، وتعكس إرادة حقيقية وتوجها باطنيا وطوعيا نحو التواصل والتعاون مع الآخر، وتجسد عقلية فريدة في استبعاد التعصب المذهبي، وقل إن شئت: (الجهل المذهبي) أو قل (التجاهل المذهبي) الذي يدل على إقصاء الآخر وعدم الاهتمام به، ذاتا وموضوعا وفعلا وأثرا.

وبناء عليه، فإن تناول هذه الخلافيات بالمفهوم العلمي الواسع، بتناول أسبابه وأصوله ومناهجه ومختلف متعلقاته، وبتناول هذه الخـلافيات بطابعها الخلقي القيمي الموضوعي الإنساني الحضاري المبدع، فإن تناولها بهذين الاعتبارين سيؤسس لمنظومة متكاملة في قضايا الخلاف ومشتمـلاته ومسـائـلـه، يمـكن أن نطـلق عليـه اسـم (علـم الخـلاف) أو (فقه الخلاف) أو (نظرية الخلاف)، والتي تعالج موضوع الخلافيات أو (الجزئيات الخلافية) ضمن إطار معرفي جامع لكل مفرداته ومكوناتـه، بمراعـاة منهجية علمية وموضوعية وواقعية وبنائية وفاقية تكاملية وتعاونية. [ ص: 39 ]

ومن هنا، فإنه يمكن القول: بأن تناول الأحكام الشرعية الجزئية بمعزل عن إدراك هذا العلم أو بالتغاضي عنه ولو جزئيا وحينيا، فإن هذا التناول سيورث المنهج التجزيئي لإيراد الأحكام، وسيؤدي إلى المعالجات الجزئية والبعضية، وإلى البدائل السطحية والشكلية التي لا تعالج نفس المشكلات وعمق الأزمات وبواطن الأمور، هذا فضلا عما يورثه هذا التناول من زيادة التعصب المذهبي والطائفي، ومن تعاظم لحالات التوتر والتذمر والتعكر، وربما لظواهر من التكفير والتفسيق والتعنيف، وربما يؤدي في آخر مطافه إلى ساحات الفتنة والاقتتال والحروب الأهلية وسيادة الاحتلال وهيمنة المحتل.

و من الأمثلة الخلافية التقريبية، الفعل الفلاني المختلف في تحريمه بين العلماء وداخل المذاهب كالعمل بالبنوك [1] التي يتراوح نشاطها بين الاستثمار المباح والتعامل المحظور. ويعود هذا الخلاف إلى جملة أمور نظرية وعملية تتعلق بالمدرك الشرعي والنصي والمقاصدي، وبالنتيجة الحاصلة، وبالعلاقة بأمور أخرى وبمعطيات خارجية كثيرة لها دورها وأثرها في بيان الحكم وتبيينه وتقريره وترجيحه ومراجعته وغير ذلك.

والحق أنني في هذا السياق لست مدعوا إلى تحقيق القول في هذا المثال (بيانا وتدليلا وترجيحا وتقصيدا...) وذلك لأن مثل هذا قد يضفي على [ ص: 40 ] هذا البحث طابع التفريع الفقهي، وربما قد يعمق حالة الخلاف، ونحن ننشد الاتفاق أو الوفاق أو الخلاف الفقهي الحضاري.

ولكن الـذي أدعـو إليه بموجب طبيعة البحث ومنهجيته أن تناول هذا المثال ينبغي أن يدرج ضمن مبادئ معلومة منها:

- أن هذا المثال خلافي واجتهادي تنطبق عليه قواعد علم الخلاف وقواعد النظر والاجتهاد.

- أن رأي بعض العلماء بإنكار العمل في البنوك الربوية يعد من قبيل إنكار المنكرات المختلف فيها وليس المتفق عليها، ولذلك وجب أن يلحق بمنهج تطبيق قواعد المعروف والمنكر المختلف فيه. ومن ذلك: عدم تغيير المنكر المختلف فيه باليد والقوة، وأن تكون هناك مصالح أرجح من المصالح الموجودة، وأن يتولى التغيير صاحب هذا التغيير، وهو ولي الأمر أو من يقوم مقامه، وغير ذلك.

وكل هذه الأمور المتعلقة بمنهج النظر في هذه الصورة لا تجيز في كل الأحوال تحطيم البنك الذي يتعامل بالربا، أو التعرض لمنسوبيه بالاعتداء والتعنيف، وذلك لورود الخلاف في حكم العمل بهذا البنك، ولعدم الفائدة من ممارسة العنف في منع هذه المعاملات، ولتقديرات خاطئة في الفهم والاجتهاد والتطبيق والتنـزيل. [ ص: 41 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية