الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

ظاهرة التطرف والعنف (من مواجهة الآثار إلى معالجة الأسباب) [الجزء الثاني]

نخبة من الباحثين

أولا: أسباب العنف المتعلقة بكيفية التعامل مع العلوم الفقهية:

العلوم الفقهية - كما ذكرت - هي منظومة معرفية شرعية متكاملة تتأسس عليها الأحكام الشرعية الفقهية الجزئية، وفق منهجية تأويلية واجتهادية وواقعية محددة ومضبوطة في المدونة الشرعية وفي التاريخ التشريعي وفي المؤسسات الاجتهادية في العصر الحالي.

والإخلال بهذه العلوم الفقهية (مضمونا ومنهجا) قد يكون أحد الأسباب الرئيسية في قيام حالة العنف، أو في التأصيل والتبرير لهذا العنف، أو في استبقائه وتغذية موارده الفكرية والسلوكية، من خلال بعض المسوغات النظرية والقراءات التأويلية والتفسيرية التي تعكس الخلل الذي تصاب به هذه المنظومة، والمرض الذي يبتلى به بعض العاملين في مجال هذه المنظومة.

والحق أن هذا الخلل يكمن في أحد الأمور التالية:

- الأمر الأول: استبعاد علم أو بعض العلوم الفقهية وطرحها وعدم الاعتماد عليها في النظر والاجتهاد في الأفعال الإنسانية، وفي إيجاد الحلول والأحكام الجزئية لها، كاستبعاد علم المقاصد الشرعية مثلا، أو علم الخلاف الفقهي، أو علم المستثنيات الشرعية، أو علم الضوابط الشرعية.

إن استبعاد أحد هذه العلوم هو استبعاد لروح وجوهر الأحكام والحلول الجزئية المتوصل إليها بالنظر القاصر والعاجز والسطحي والشكلي، فاستبعاد المقاصد هو استبعاد لمجمل النتائج الصلاحية والإصلاحية والمنفعية [ ص: 49 ] لتطبيق هذه الحلول والأحكام، واستبعاد علم الخلاف الفقهي هو استبعاد لمجال من السعة والمرونة في مجال الحكم والاجتهاد والاختيار وإمكان التحاور والتعايش مع (الآخر) وتحقيق الروابط الأخوية والإسلامية والعلمية بين أصحاب المذاهب والاتجاهات والمدارس الفقهية والشرعية والفكرية بوجه عام. وكذلك، فإن استبعاد علم المستثنيات قد يجعل جميع الأحوال متساوية مع اختلاف أسبابـها وظروفها، وفي هذا من العنت والشدة والمخالفة المنطقية والمناقضة الشرعية ما يجعل الحلال مساويا للحرام، وما يحول المعروف منكرا، والضروري حاجيا، والثواب عقابا. وهذا محال شرعا ومنكر واقعا وقبيح منهجا.

أما استبعاد علم الضوابط فلاشك أنه تمييع وتهميش، وهو مدخل التفلت من الدين وآدابه وتكاليفه، أو مقدمة للانفلات من الفطرة والسماحة ومستطاع الناس ومقدور المكلفين. وهذا كله منفي في دين الله وسنن الكون والحياة.

إن علاج هذا الخلل يكمن في عدم استبعاد أي علم من علوم الفقه اللازمة، أي أنه يتعين على الناظر في الأحكام والحلول استحضار مدركات هذه الأحكام وأساسها ومرجعيتها في الأصول والمقاصد والقواعد والاستثناء والضبط والتحديد، وذلك بغرض الوصول إلى الحكم الجزئي الذي هو الثمرة الحقيقية والناضجة المستخلصة من كل العلوم الفقهية التي تنتج هذه الثمرة. [ ص: 50 ]

ولا يظن الظان أن المراد باستحضار كل العلوم الفقهية هو استدعاء لها جميعها وبنفس المستوى الكمي والمنهجي، أي أن يعرض المتفقه القضية الواقعة المراد علاجها والجواب عنها، وأن يعرضها على هذه العلوم الفقهية علما بعد علم، وتفصيلا بعد تفصيل، ليصل في آخر مطافه إلى تحديد الحكم المناسب.

إن هذا الاستحضار بهذه الكيفية ليس هو المراد باستدعاء العلوم الفقهيـة جميعهـا في الحـكم على القضـايا والنـوازل، وذلك لأنـه مستـحـيل أو متعذر الوقوع لتداخل هذه العلوم وتشعبها وتشابكها بعضها وبعض، ولتفاوت هذه العلوم من حيث أقدار حضورها وأحجام حصولها في معالجة الوقائع والنوازل، إذ هناك وقائع يحضر فيها المعنى المقاصدي أكثر بكثير من حضور المعنى الاستثنائي، وهناك نوازل يقل فيها الالتفات اللغوي والمبنى الشكلي ليكثر فيها النظر إلى الحقائق والمعاني والإطلاقات الاصطلاحية والعرفية والبيئية.

ونخلص في آخر مطافنا إلى أننا نريد باستحضار جميع العلوم الفقهية، إعمال الملكة الحاوية لمضمون ومنهج هذه العلوم وتنـزيلها بحسب مراتب النظر ومستويات الحاجة المعرفية، ولذلك تتفاوت درجات الاستدعاء وأحجامه ومقاديره وتتفاوت حظوظ هذه العلوم وأنصبتها من حيث حضورها وتأثيرها في إيجاد الحكم الجزئي والحل الإصلاحي المناسب. [ ص: 51 ]

وارتباط هذا الأمر بحالة العنف وقيامها أو تناميها في المجتمع الإسلامي أو في غيره، إنما هو ارتباط منطقي من الوجهة العلمية, ذلك أن قيام هذه الحالة العنفية هو نتائج لاختلال المنظومة باختلال أحد عناصرها واستبعاد بعـض علومـها ومعارفـها، كاستبـعاد قاعـدة الاستثناء الشرعية، التي تستثني - مثلا - الأطفال والنساء والشيوخ من قتالهم أو التعرض لهم أثناء الحروب، وذلك لانتفاء علة قتلهم ولعدم الجدوى من ذلك، فهؤلاء يستثنون من عموم قتال الأعداء المحتلين زمن الحروب والاحتلال وأثناء الدفاع عن الأوطان والعمران والأبدان. وقد ثبت هذا الحكم بالنص الشرعي كما هو معروف، وعلل بمعنى الاستثناء من عموم الحكم.

لاحظ معي كيف أن هذا المثال استحضرت فيه العلوم الفقهية المتنوعة، علم المقاصد، علم القواعد، علم الضوابط. غير أن استحضار علم المستثنيات استحضر بدرجة أكبر، وذلك لأننا أمام حالة خاصة، وصورة معينة لا يجوز لنا أن نلحـقها بالأصـل، وذلك لانتفـاء علة هذا الأصل أو لمراعاة الراجح الغالب، أو لتقدير الأصلح والأنسب.

وهكذا يتبين لك قانون الاستثناء المبني على أصوله والمنضبط بمعاييره والمنـزل في مواضعه وميادينه، والآيل إلى نتائجه ومنافعه، وكل هذا يقدر بمقـداره الاجتهـادي ويوزن بميزانه الشرعي، ولكل مقام مقال ولكل حادث حديث. [ ص: 52 ]

- الأمر الثاني: الإفراط أو التفريط في استخدام علم فقهي أو بعض العلوم الفقهية بغرض التوصل إلى الحكم أو الحل الشرعي الجزئي. والإفراط هـو المبالغة أو الغلـو في الاستخـدام، والتفـريط هو التساهل غير المحمود أو الإهمال أو التقصير في هذا الاستخدام.

والمعادلة الشرعية والمنطقية في الاستخدام هي التوسط بين طرفي الإفراط والتفريط، بمعنى ملازمة الاستخدام المعتدل والمتوازن والواقف على الحد المطلوب شرعيا ومنهجيا ومنطقيا.

ومثال الإفراط في الاستعمال: الإفراط في استعمال المقاصد الشرعية والمبالغة في التعويل عليها والالتفات إليها في مواضعها وفي غير مواضعها، وبكيفيات وصيغ تفوت المراد الشرعي الحقيقي وتعطل المصالح الحقيقية وتوقع الناس في دوائر الهوى والشهوة والانفلات والتفلت من الدين وتعاليمه وتكاليفه. ومثال ذلك المبالغة في مقصد التيسير والسماحة بكيفية غريبة (علميا ومنهجيا) أدت إلى إفراغ قاعدة التيسير والسماحة من محتواها الشرعي والتكليفي والمقاصدي الحقيقي، الأمر الذي أدى إلى إسقـاط عدة تكاليف أو تنقيص بعض مطلوباتـها التي لا تصح إلا بها، كإسقاط التجرد بكيفية إفتائية مجردة عن شروطها ومشروعيتها، وكتمييع قضايا الإيمان والعقيدة وقيم التحضر والخصوصية والهوية تحت عنوان المسامحة المطلقة [ ص: 53 ] والمرسلـة، والتسـامح الذي يردده الكثير بلا موجب ولا ضـابط ولا حـد ولا معيار.

وقـد يؤدي أو يعمـق هذا الإفراط المقاصـدي حـالات العنف اللفظية أو العمـلية، بسبب ما يراه أصحـاب هـذا العنف من تجاوز لمطلوب الدين، وتهاون في أداء واجب الفكر والإفتاء، ومسايرة للأهواء الخاصة والعـامـة، وجـري وراء المتاـع الدنيوي أو لهث خلف الشهرة والبروز، وهذا كله يفسـره أصحابه بأنه انحراف فكري وعملي يجب منعه وصده، ويجب إنكاره وتغييره ولو باعتماد التعنيف أو التأفيف، وهو ما يؤدي إلى نشأة العنف في حال من أحواله، وربما إلى نموه وتطوره، بورود أسباب أخرى تغذيه وتقويه.

والمثال الواقع في التفريط، هو المثال المتعـلق بقاعدة التيسـير وقاعـدة السماحة كذلك، إذ يفرط بعض القائمين بالعمل الفقهي في قاعدة التيسير وأثرها في الحج - مثلا-، الأمر الذي يؤدي إلى أشكال عنيفة كالازدحام والتـدافع وما يترتب عليها من أضرار ومفاسد تعبر عن إرادة فعل العنف، وإنما هي أثر ونتيجة لنظر فقهي استبعد قاعدة التيسير أو قلل من آثارها ودورها.

وهـذه الأشـكال لا تقل خطرا ولا أثرا عن أشكال العنف الأخرى، إذ تشترك جميعها في هلاك النفوس أو هلاك أطرافها وأعضائها وفوات بعض منافعها وحقوقها. [ ص: 54 ]

كما يفرط بعض القائمين بالعمل الفقهي في قاعدة السماحة، فيـضيقـون دائرتـها ويقـللون آثارها إلى المستوى الذي يصبح فيه أصحـاب هذا العمـل ضيقي الصدور وشديدي المعاملة وقليلي الاتصال مع الآخر.

ويبرر هذا وغيره لقيام صور من العنف، تتعلق بالغلظة في القول والجفاء في التواصل والشدة في المعاملة، وربما يتحول هذا إلى تعنيف الآخر وإذايته بدنيا أو ماليا أو معنويا، بسبب انسداد الأفق الفكري والذهني وانعدام التسامح أو قلة المعاملة السمحة التي هي مقصود للشرع ومراد للشارع وفطرة لبني البشر جميعا.

والحق الذي ينبغي أن يصار إليه هو التوسط في قاعدتي التيسير والسماحة، فلا إفراط فيها ولا تفريط، إذ كلاهما يؤدي إلى خلاف المطلوب الشرعي والمقتضى المقاصدي، ومن معاني التوسط في التيسير، إعماله بمضمونه وفي مواضعه وبشروطه وبصدوره من أهله المجتهدين وتوجهه لأصحابه المكلفين. أما معاني قاعدة السماحة فتعمل بنفس الميزان والمعيار، فتكون السماحة خصلة فطرية وحياتية منـزلة في مجالها موجهة إلى أصحابها مضبوطة بضوابطها. وهذا كله يتحدد بإعمال المنظومة في جميع علومها ومكوناتها وبدقة منهجيتها وآلياتها. [ ص: 55 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية