الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
خامسا: المقاصد الشرعية:

وهي غايات وأهداف وحكم الأحكام الشرعية العملية الجزئية. ومعلوم أن الشارع تعالى قد شرع هذه الأحكام الجزئية لتحقق غاياتها وأهدافها في حياة الناس بجلب ما يصلحهم وينفعهم في دنياهم وجلب مرضاة الله والفوز بجناته وخيراته.

والعلم بمقاصد هذه الأحكام معدود من قبيل العلوم الشرعية الأساسية التي يتوقف فهم الدين وتطبيقه على معرفتها والإلمام بها.

وتكمن أهميتها بالأساس في كونها إطارا إسلاميا غائيا ونتائجيا لإظهار الأحكام الجزئية وأدائها وتفعيلها وتحقيقها بالكيفية التي يتحقق فيها الحكم وفق مراد الحاكم ومقصوده، بمراعاة ما يترتب على هذا الحكم من مصالح بجلب المنافع ودفع المفاسد بمنهجية محددة ومعلومة في علم المقاصد والنظر المصلحي، فهما وإظهارا وتنـزيلا وتفعيلا وترجيحا وتنقيحا.

ويعد من الخطأ المعرفي والمنهجي معاملة الأحكام الشرعية الجزئية بمعزل عن مقاصدها وغاياتها، وبصرفها عن معانيها ومآلاتها وآثارها، وبقصرها على ظواهرها وشكلياتها، وبحصرها في جانب من القوالب والظواهر والشكليات والصور المنسوخة والمستلة والمكررة، التي تجعل تحمل وأداء هذه الأحكام أداء آليا وحرفيا فارغا من كل محتواه المصلحي ومضمونه الحياتي والحضاري والإنساني الناهض والمزدهر والمتقدم. [ ص: 30 ]

ويعد من نفس الخـطـأ المـعـرفي والمنهـجي - كذلك - معـاملة هذه الأحكام الشرعية الجزئية بمنهجية يطغى فيها الجانب المقاصـدي التعلـيلي على الجانب الظـاهري والمدلول اللغوي وما يتطلبه البناء المعرفي الشـرعي من معـان ومعطيات تتكامل مع الجانب المقاصدي ولا تعارضه ولا تبطله ولا تفوته.

ومن هنا، فإن الالتفات إلى المقاصد الشرعية في معاملة الأحكام الجزئية ينبغي أن يكون التفاتا وسطيا اعتداليا دون إفراط أو تفريط. وهذا يتحدد وفق منهجية الاجتهاد المقاصدي في استخراج الجزئيات، حسب طبيعة هذه الجزئيات، موضوعا وتدليلا ودلالات، وبحسب مسالك النظر ومراتبه وأحواله وما يعرض له.

ثـم إن هـذه الوسطية المقاصدية تحقق وسطية الأحكام الجزئية انعـكاسا لوسطيـة الشـريعة، ومسايرة لوسطية الفطرة الإنسانية وسنن الحياة والكون.

والتمثيـل التقريـبي لمراعـاة المقـاصد الشرعية في تقرير الأحكام الجزئية، مثال القول الحسن وملازمة الرفق، إذ تقرير صورة من صور الإحسـان بخصوص جهـة ما (كالجهة السياسية أو الجهة الدينية [ ص: 31 ] المخالفة)، وبخصـوص مجـال ما (كمجال التربية والإعلام)، وبخصوص ظرف ما وحالة ما (كحـالة توتر فكري أو حضـاري في زمن معـين أو حـالة الاحتـكاك الطائـفي في وضـع ما أو زمـن ما...)، فتـقريـر هـذه الصـورة الجـزئية والفـرعية (بالنظر إلى خصوصها وضيق دائرتها وانحسارها في الزمان والمكان والحـال) يتأسـس عـلى علـم عـام وإلمام إجمالي بمقاصد التعامل مع (الآخر) ومقاصد التعايش (تأثرا وتأثيرا، دعوة وخطابا وحـوارا وتدافعا...)، بل يتأسـس عـلى معـنى مقاصدي أعم وعلى حقيقة غـائية كبرى تتصـل بمقـاصد الخلق والاستخلاف والشهود الحضاري وعمارة الأرض وتزيين البيئة وصنع العمران وإقامة البنيان لصالح الإنسان وإرضاء الرحمن.

وتكون هذه الصـورة الجزئية باعتبارها فعلا إنسانيا منوطا بحكمه الفقهي الجزئي، إحدى الصيغ والكيفيات التي تسهم في تحقيق مجمل المقاصد العامة والغايات الكبرى، إذ يكون الإحسان للآخر والرفق به سبيلا لاستعطافه واستقرابه وتقريبه من دائرة التكليف أو إدخاله فيها [1] ، وهذا هو عين رسالة الدين والاستخلاف، وعين مقاصد التكليف والامتثال والشهود وتحقيق المقصود. [ ص: 32 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية