الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

ظاهرة التطرف والعنف (من مواجهة الآثار إلى معالجة الأسباب) [الجزء الثاني]

نخبة من الباحثين

- الطاغوت السياسي:

لو حاولنا استقراء تاريخ حوالي نصف قرن من تاريخ عالمنا الإسلامي، حيث إن تلك الفترة كانت تشكل نقطة التحول في الكثير من المجتمعات وأهلها لدخول العصر، وأتاحت لها الإفادة من تجاربها، وبناء مؤسساتها، وترقية شعوبها، والارتقاء بأنظمتها التعليمية والتقنية، والإفادة من الانفتاح وثورة المعلومات، وبناء الاستقرار،

لو حاولنا استقراء نصف قرن من بدء قيام إسرائيل على العنف والإرهـاب، كقـاعدة مستمـرة للاستعمار، وما لازمها في العـالم العربي [ ص: 146 ] من الانقـلابات والاضطرابات والإنفـاق العسـكري، ومـا كبت بسببها من الحـريات، ووزع من الاتـهامات والإدانات والتخـوينات، وما صنـع من الزعامات المغشوشة، وما شاع من الإرهاب الفكري والاستبداد السياسي والقهر والظلم الاجتماعي، ومصادرة الحريات، وإهدار حقوق الإنسان، وإعدام مبدأ تكافؤ الفرص، باسم التحضير للمعركة والاستعداد للتحرير، وما استتبع ذلك من كتم كل فم، وتعطيل كل عقل، وعسكرة المجتمعات العربية وعسكرة الطلبة والعمال والفلاحين وما إلى ذلك، والصورة المتخلفة التي تشكلت من خلالها مؤسسات الأمن، حيث تشكل معظم رجالها والقائمين عليها من العاطلين عن العمل، الفاشلين في دراستهم، الحاقدين على كل ناجح، الباحثين عن السلطة لمعالجة مركب النقص، لذلك فالكثير منهم بات غير مؤهل لمهمته، وغالبا ما يدفعه الثأر والحقد لإيذاء الناس، بدون حق، وبذلك يتحول إلى عبء على النظام نفسه، يزيد من أوزاره ومحاصرته وعزلته، وحتى كراهيته.

بينمـا هـذه العناصر عند (الآخر) تختار من أصحاب المؤهلات العالية والفطنة ودقة الملاحظة واتزان الشخصيـة، نظرا لطبيعة وخطورة المهمة المنوطة بها.

وإذا أضفنا إلى ذلك أن تخريب المؤسسات التنظيمية الأهلية والشعبية واخـتراقها كانت ولا تزال تشـكل الهاجس الدائـم لإسرائيل واستقرارها، [ ص: 147 ] وأن الجهاد والإسلام كان وراء المواجهات جميعا، وأن التوجه إلى تشويه مفاهيم الجهاد واختراق التنظيمات العاملة في مجال المساعدات الخيرية والدعوة هو السبيل لضمان المستقبل لقاعدة الاستعمار، لأدركنا لماذا يعادون الإسلام، ويطاردون الجهاد والمجاهدين، ويحاصرون مؤسسات الإغاثة، وينعتونهم بكل الصفات والنعوت؟

فالاسـتـعـمار والأنظمـة المعسـكرة، في مرحلة ما بعد الاسـتعمار، وما أشاعته من الاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي للتمـكين لبقائها واسـتمرارها، كان وراء جـل الاضطرابات والعنف والتطرف.. إلى آخر الأوصـاف والمترادفات التي بدأ يوسم بها الجهاد، دون التصريح بذلك.

في هذا المناخ الفاسد، من الاستبداد السياسي والظلم الاجتماعي والإثراء بلا سبب، وتكريس الأحقاد، والتأصيل والتأسيس لكل التناقضات في المجتمع، وغياب المشروعية الكبرى، وانتقاص الأمور الجامعة، وانفجار الألغـام الطائفـية والمذهبية والعنصرية، كان لا بد من نشوء صور ونماذج وممارسات عنيفة، لأسباب ودوافع شتى.. ولأنها كلها تحاول أن تفتش عن مشروعيتها وعطائها التراثي والتاريخي والقيمي كانت تستظل بالمظلة الإسلامية، التي حملت قافلتها الغث والسمين، وهذا طبيعي.

في ظل الأنظمة الملحقة بالاستعمار، التي أطلق عليها زورا وبهتانا بعهود الاستقلال، وممارساتها القمعية، التي جعلت الشعوب تحن لعهود [ ص: 148 ] الاستعمار؛ لأنها كانت تجد على الأقل مساحات من الأمن والأمان واحترام حقوق الإنسان، باتت الشعوب تدفع ضريبة الاستقلال من دمها وطعامها وأمنها وحريتها، وكانت الإدانات الأولى لهذه الأنظمة المستلحقة بالاستعمار أنها سرقت، بمعاونة الاستعمار، ثـمرات ثورات وحـركات التحرير الوطـني، التي كان الإسلام محركها ودافعها وحاميها، وتنكرت لدماء الشهداء وأهدافهم وقيم الأمة ومرجعياتها وتاريخها الحضاري، ومعاداة معادلة الأمة الاجتماعية والثقافية وتاريخها، حتى جاء معظم قادة الحقب، في مرحلة ما بعد الاستـعمار، من العسـكر؛ حـتى ولو خلعوا ألبستـهم العسكرية فإنـهم لم ينخلعوا من عقليتهم وممارساتهم القمعية؛ وكانت المواجهات، التي قـد تكون أشـد تطرفا وعنـفا لما يداخلها من الإحباط وخيبة الظن والتردي إلى مرحلة أشد سوءا من مرحلة الاستعمار؛ ولأن ظلم ذوي القربى أشد مرارة، كانت المواجهات وكان العنف، وكان القمع، وكما أسلفنا، بدأنا مرحلة خطيرة، بدأنا نكسر أسلحتنا بأيدينا لصالح (الآخر) دون أن يدري أهل العمالة الثقافية والسياسية بأنهم من أرخص الناس، وأنهم سوف يلفظون لفظ النواة بعد استنفاد الغرض منهم.

وكان من الطبيـعي جـدا في منـاخ هـذه الأزمات المتـلاحـقـة، التي يأخذ بعضها برقاب بعض، وهذه المواجهات العنيفة والمرعبة والمتطرفة، التي قـد تستبيـح كل مـحـرم في سبيل تحقيق الغلبة على الخصم، أن ينشأ [ ص: 149 ] ما يسمـى بـ "ثقافة المواجهة"، الـتي تزكي قـيم التضحية والشهادة والمـوت، في الوقت الذي قد تسقط على الخصم، وهو الخصم السياسي، كل صفات الأعداء للإغراء بمواجهته، من أوصاف الكفار والمنافقين والظلمة والمتسلطين، وبالتالي تستبيـح الدماء والأموال والأطفال والنساء ومـا إلى ذلك؛ لأنـها تعتـبر ذلك من الأمـور المسـاندة، لـذلك لا بد من تدميرها إنهاكا للخصم.

ولم تكن ممارسات أنظمة القمع أو الخوف (بتعبير أدق) التي تمارس إرهاب الدولة بأحسن حالا من ممارسة بعض التنظيمات والأفراد، فقد امتد إرهابها إلى النساء والشيوخ والأطفال، ومارست أسوأ أنواع الممارسات الوحشية كوسائل ضغط وإنهاك بعيدا عن أي مفهوم للمسؤولية... وهكذا، تدور في بلاد العالم الإسلامي الدوائر الجهنمية بين أبناء الأمة الواحدة، ويتحدد العنف والتطرف وسيلة واحدة، بين الأمة والدولة، والشعوب والحكومات، وبذلك نعود إلى دعاوى الجاهلية ونخواتها ونفجر كل ألغامها.

التالي السابق


الخدمات العلمية