الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ولو قال لامرأتين : إذا حضتما حيضة فأنتما طالقان أو قال إذا حضتما فأنتما طالقان الأصل في جنس هذه المسائل أن الزوج متى أضاف الشيء الواحد إلى امرأتين وجعل وجوده شرطا لوقوع الطلاق عليهما ينظر إن كان يستحيل وجود ذلك الشيء منهما كان شرطا لوقوع الطلاق عليهما وجوده من أحدهما ، وإن كان لا يستحيل وجوده منهما جميعا كان وجوده منهما شرطا لوقوع الطلاق عليهما ; لأن كلام العاقل يجب تصحيحه ما أمكن ، إن أمكن تصحيحه بطريق الحقيقة يصحح بطريق الحقيقة ، وإن لم يمكن تصحيحه بطريق الحقيقة يصحح بطريق المجاز ، إذا عرف هذا فنقول إذا قال لامرأتين له : إذا حضتما حيضة فأنتما طالقان أو إذا ولدتما ولدا فأنتما طالقان فحاضت إحداهما أو ولدت إحداهما يقع الطلاق عليهما ; لأن حيضة واحدة وولادة واحدة من امرأتين محال فلم ينصرف إليه كلام العاقل فينصرف إلى وجود ذلك من أحدهما ; لأن إضافة الفعل إلى اثنين على إرادة وجوده من أحدهما متعارف بين أهل اللسان قال الله تعالى في قصة موسى وصاحبه { : فنسيا حوتهما } وإنما نسيه صاحبه وهو فتاه .

                                                                                                                                وقال تعالى { : يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان } وإنما يخرج من أحدهما وهو البحر المالح دون العذب .

                                                                                                                                وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمالك بن الحويرث وعمه : { إذا سافرتما فأذنا وأقيما } ومعلوم أن الأمر بالتأذين والإقامة كان لأحدهما فكان هذا تعليق طلاقهما بحيضة إحداهما وبولادة إحداهما ، ولو قالت إحداهما : حضت إن صدقها الزوج طلقتا جميعا ; لأن حيضتها في حقها ثبت بإخبارها وفي حق صاحبتها ثبت بتصديق الزوج ، وإن كذبها طلقت هي ولا تطلق صاحبتها ; لأن حيضها ثبت في حقها ولم يثبت في حق صاحبتها ، ولو قالت كل واحدة منهما : قد حضت طلقتا جميعا ، سواء صدقهما الزوج أو كذبهما أما إذا صدقهما فالأمر ظاهر لا يثبت حيضة كل واحدة منهما في حق صاحبتها .

                                                                                                                                وأما إذا كذبهما فكذلك ; لأن التكذيب يمنع ثبوت حيضة كل واحدة منهما في حق صاحبتها لا في حق نفسها .

                                                                                                                                وثبوت حيضتها في حق نفسها يكفي لوقوع الطلاق عليها كما إذا قال لها : إذا حضت فأنت طالق وهذه معك فقالت : حضت ، وكذبها الزوج .

                                                                                                                                ولو قال : إذا حضتما فأنتما طالقان ، وإذا ولدتما فأنتما طالقان لا تطلقان ما لم يوجد الحيض والولادة منها جميعا ; لأنه أضاف الحيض أو الولادة إليهما ويتصور من كل واحدة منهما الحيض والولادة ، فيعلق الطلاق بوجود الحيض أو الولادة منها جميعا عملا بالحقيقة عند الإمكان ، ولو قالت كل [ ص: 131 ] واحدة منهما : قد حضت ، إن صدقهما الزوج طلقتا ; لأنه علق طلاقهما بوجود الحيض منهما جميعا وقد ثبت ذلك بقولهما مع تصديق الزوج ، وإن كذبهما لا تطلق واحدة منهما ; لأن قول كل واحدة منهما مقبول في حق نفسها لا في حق صاحبتها ، فيثبت في حق كل واحدة منهما حيضها لا حيض صاحبتها ، وحيض كل واحدة منهما بانفراده شطر الشرط ، وطلاق كل واحدة منهما متعلق بوجود حيضهما جميعا ، والمعلق بشرط لا ينزل بوجود بعض الشرط وإن صدق إحداهما وكذب الأخرى تطلق المكذبة ولا تطلق المصدقة ; لأن حيض المكذبة ثبت في حقها بإخبارها ، وحيض المصدقة ثبت في حق المكذبة أيضا بتصديق الزوج فثبت الحيضتان جميعا في حق المكذبة فوجد كل الشرط في حقها فيقع الطلاق عليها ، ولم يثبت في حق المصدقة إلا حيضها في حق نفسها ولم يثبت في حقها حيض المكذبة لتكذيب الزوج المكذبة في ثبوت حيضها عند المصدقة فكان الموجود في حق المصدقة شطر الشرط فلا يقع الطلاق ، وكذلك إذا قال : إذا حضتما حيضتين أو إذا ولدتما ولدين فأنتما طالقان ، فهذا وقوله إذا حضتما أو ولدتما سواء فما لم يحيضا جميعا أو يلدا جميعا لا يقع الطلاق عليهما ; لأن وجود حيضتين منهما وولادة ولدين منهما يكون بهذا الطريق وهو أن تحيض كل واحدة منهما حيضة وتلد كل واحدة منهما ولدا .

                                                                                                                                وكذا إذا قال : إذا دخلتما هذه الدار أو كلمتما فلانا أو لبستما هذا الثوب أو ركبتما هذه الدابة أو أكلتما هذا الطعام أو شربتما هذا الشراب ; فما لم يوجد منهما جميعا لا يقع الطلاق لأنه يتصور وجوده منهما فيعمل بحقيقة الكلام بخلاف قوله إذا حضتما حيضة أو ولدتما ولدا ; لأن ذلك محال ثم التعليق في الملك كما يصح بشرط الوجود يصح بشرط العدم ; لأن الشرط علامة محضة والعدم يصلح علما محضا فيصلح شرطا غير أنه إن وقت ينزل المعلق عند انتهاء ذلك الوقت وإن أطلق لا ينزل إلا في آخر جزء من أجزاء حياته ، بيان ذلك : إذا قال لامرأته : إن لم أدخل هذه الدار فأنت طالق ، أو قال : إن لم آت البصرة فأنت طالق لا يقع الطلاق إلا في آخر جزء من أجزاء حياته ، لأنه علق الطلاق بعدم الدخول والإتيان مطلقا ولا يتحقق ذلك إلا في ذلك الوقت ، وعلى هذا يخرج ما إذا قال لامرأته : أنت طالق إن لم أطلقك أنه لا يقع الطلاق عليها ما لم يثبته إلى آخر جزء من أجزاء حياته ; لأنه علق الطلاق بشرط عدم التطليق مطلقا ، والعدم المطلق لا يتحقق إلا في ذلك الجزء ، ولو قال : أنت طالق إذا لم أطلقك وإذا ما لم أطلقك فإن أراد بإذا إن لا يقع الطلاق إلا في آخر جزء من أجزاء حياته بالإجماع وإن نوى به متى يقع الطلاق إذا فرغ من هذا الكلام وسكت وإن لم يكن له نية .

                                                                                                                                قال أبو حنيفة هذه بمنزلة قوله إن .

                                                                                                                                وقال أبو يوسف ومحمد هي بمعنى متى ( وجه ) قولهما : أن إذا للوقت قال الله تعالى { : إذا الشمس كورت } و { إذا السماء انفطرت } و { إذا السماء انشقت } إلى غير ذلك من الآيات الكريمة فكانت في معنى متى ، ولو قال : متى لم أطلقك يقع الطلاق عقيب الفراغ من هذه اللفظة إذا سكت كذا هذا ، والدليل أنه إذا قال لها : أنت طالق إذا شئت لا يقتصر على المجلس كما لو قال : متى شئت ، ولو قال إن شئت يقتصر على المجلس ، ولو كانت للشرط لاقتصرت المشيئة على المجلس كما في قوله إن شئت ، ولأبي حنيفة إن هذه الكلمة كما تذكر ويراد بها الوقت ، تذكر ويراد بها الشرط كما قال الشاعر :

                                                                                                                                استغن ما أغناك ربك بالغنى وإذا تصبك خصاصة فتجمل

                                                                                                                                ألا ترى أنه جزم ما بعده ، فإن قال أريد بها الوقت يقع الطلاق كما فرغ من هذا الكلام وسكت كما في قوله متى .

                                                                                                                                وإن قال : أريد بها الشرط لا يقع إلا في آخر جزء من أجزاء حياته كما في كلمة إن ، فوقع الشك في وقوع الطلاق عند الفراغ منه فلا يقع مع الشك ، وإنما لا يقتصر على المجلس ; لأنه حصلت المشيئة في يدها بقوله : أنت طالق إذا شئت ، وأنها تستعمل للوقت وللشرط فإن أريد بها الشرط يبطل بالقيام عن المجلس كما في قوله : إن شئت .

                                                                                                                                وإن أريد بها الوقت لا يبطل كما في قوله : متى شئت ; فوقع الشك في البطلان بالقيام عن المجلس فلا يبطل مع الشك فاطرد كلام أبي حنيفة في المعنى بحمد الله سبحانه وتعالى .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية