الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                قال بشر عن أبي يوسف في رجل حلف لا يذوق من هذا اللبن شيئا أو لا يشرب فصب فيه ماء فذاقه أو شربه أنه إن كان اللبن غالبا حنث لأنه إذا كان غالبا يسمى لبنا وكذلك لو حلف على نبيذ فصبه في خل أو على ماء ملح فصب على ماء عذب والأصل في هذا أن المحلوف عليه إذا اختلط بغير جنسه تعتبر فيه الغلبة بلا خلاف بين أبي يوسف ومحمد غير أن أبا يوسف اعتبر الغلبة في اللون أو الطعم لا في الأجزاء فقال إن كان المحلوف عليه يستبين لونه أو طعمه حنث وإن كان لا يستبين له لون ولا طعم لا يحنث سواء كانت أجزاءه أكثر أو لم تكن واعتبر محمد غلبة الأجزاء فقال إن كانت أجزاء المحلوف عليه غالبا يحنث وإن كانت مغلوبة لا يحنث وجه قول محمد : إن الحكم يتعلق بالأكثر والأقل يكون تبعا للأكثر فلا عبرة به ولأبي يوسف أن اللون والطعم إذا كانا باقيين كان الاسم باقيا ألا ترى أنه يقال لبن مغشوش وخل مغشوش وإذا لم يبق له لون ولا طعم لا يبقي الاسم ويقال ماء فيه لبن وماء فيه خل فلا يحنث .

                                                                                                                                وقال أبو يوسف فإن كان طعمهما واحدا أو لونهما واحدا فأشكل عليه تعتبر الغلبة من حيث الأجزاء فإن علم أن أجزاء المحلوف عليه هي الغالبة يحنث وإن علم أن الجزاء المخالط له أكثر لا يحنث وإن وقع الشك فيه ولا يدرى ذلك فالقياس أن لا يحنث لأنه وقع الشك في حكم الحنث فلا يثبت مع الشك وفي الاستحسان يحنث لأنه عند احتمال الوجود والعدم على السواء فالقول بالجود أولى احتياطا لما فيه من براءة الذمة بيقين وهذا يستقيم في اليمين بالله تعالى لأن الكفارة حق الله تعالى فيحتاط في إيجابها .

                                                                                                                                فأما في اليمين بالطلاق والعتاق فلا يستقيم لأن ذلك حق العبد وحقوق العباد لا يجري فيها الاحتياط للتعارض فيعمل فيها بالقياس .

                                                                                                                                ولو حلف لا يأكل سمنا فأكل سويقا قد لت بسمن ولا نية له ذكر محمد في الأصل أن أجزاء السمن [ ص: 63 ] إذا كانت تستبين في السويق ويوجد طعمه يحنث وإن كان لا يوجد طعمه ولا يرى مكانه لم يحنث لأنها إذا استبانت لم تصر مستهلكة فكأنه أكل السمن بنفسه منفردا وإذا لم يستبن فقد صارت مستهلكة فلا يعتد بها وروى المعلى عن محمد أنه إن كان السمن مستبينا في السويق وكان إذا عصر سال السمن حنث وإن كان على غير ذلك لم يحنث وهذا لا يوجب اختلاف الرواية لإمكان التوفيق بين القولين لأنه إذا كان يحنث إذا عصر سال السمن لم يكن مستهلكا وإذا لم يسل كان مستهلكا وإذا اختلط المحلوف عليه بجنسه كاللبن المحلوف عليه إذا اختلط بلبن آخر قال أبو يوسف هذا والأول سواء وتعتبر فيه الغلبة وإن كان الغلبة لغير المحلوف عليه لم يحنث وقال محمد يحنث وإن كان مغلوبا فمن أصل محمد أن الشيء لا يصير مستهلكا بجنسه وإنما يصير مستهلكا بغير جنسه وإذا لم يصر مستهلكا بجنسه صار كأنه غير مغلوب .

                                                                                                                                وقال المعلى عن محمد في رجل حلف لا يشرب من هذه الخمر فصبها في ماء فغلب على الخمر حتى ذهب لونها وطعمها فشربه لم يحنث فقد قال مثل قول أبي يوسف .

                                                                                                                                ولو حلف على ماء من ماء زمزم لا يشرب منه شيئا فصب عليه ماء من غيره كثيرا حتى صار مغلوبا فشربه يحنث لما ذكرنا من أصله أن الشيء لا يصير مستهلكا بجنسه ولو صبه في بئر أو حوض عظيم لم يحنث قال لأني لا أدري لعل عيون البئر تغور بما صب فيها ولا أدري لعل اليسير من الماء الذي صب في الحوض العظيم لم يختلط به كله .

                                                                                                                                ولو حلف لا يشرب هذا الماء العذب فصبه في ماء مالح فغلب عليه ثم شربه لم يحنث فجعل الماء مستهلكا بجنسه إذا كان على غير صفته قال وكذلك إذا حلف لا يشرب لبن ضأن فخلطه بلبن معز فإنه تعتبر الغلبة لأنهما نوعان فكانا كالجنسين قال الكرخي .

                                                                                                                                ولو قال لا أشرب لبن هذه الشاة لشاة معز أو ضأن ثم خلطه بغيره من لبن ضأن أو معز حنث إذا شربه ولا تعتبر الكثرة والغلبة وعلل فقال لأنه ليس في يمينه ضأن ولو معز ومعناه أن يمينه وقعت على لبن واختلاطه بلبن آخر لا يخرجه من أن يكون لبنا واليمين في المسألة الأولى وقعت على لبن الضأن فإذا غلب عليه لبن المعز فقد استهلكت صفته واستشهد محمد للفرق بين المسألتين فقال ولا تشبه الشاة إذا حلف عليها بعينها حلفه على لبن المعز ألا يرى أنه لو قال والله لا أشتري رطبا فاشترى كباسة بسر فيها رطبتان أو ثلاث لم يحنث لأن هذا إنما هو الغالب .

                                                                                                                                ولو قال والله لا أشتري هذه الرطبة لرطبة في كباسة ثم اشترى الكباسة حنث ونظير هذا ما ذكر ابن سماعة عن محمد في رجل قال والله لا آكل ما يجيء به فلان يعني ما يجيء به من طعام أو لحم أو غيره لك مما يؤكل فدفع الحالف إلى المحلوف عليه لحما ليطبخه فطبخه وألقي فيه قطعة من كرش بقر ثم طبخ القدر به فأكل الحالف من المرققال محمد لا أراه يحنث إذا ألقي فيه من اللحم ما لا يطبخ وحده ويتخذ منه مرقة لقلته وإن كان مثل ذلك يطبخ ويكون له مرقة فإنه يحنث لأنه جعل اليمين على اللحم الذي يأتي به فلان وعلى مرقته لا تكون إلا بدسم اللحم الذي جاء به فإذا اختلط به لحم لا يكون له مرق لقلته فلم يأكل ما جاء به فلان وإذا كان مما يفرد بالطبخ ويكون له مرق والمرق جنس واحد فلم تعتبر فيه الغلبة وحنث .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية