الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          وحدثني عن مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه أنه قال جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله إن قتلت في سبيل الله صابرا محتسبا مقبلا غير مدبر أيكفر الله عني خطاياي فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم فلما أدبر الرجل ناداه رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أمر به فنودي له فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف قلت فأعاد عليه قوله فقال له النبي صلى الله عليه وسلم نعم إلا الدين كذلك قال لي جبريل

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          1003 987 - ( مالك عن يحيى بن سعيد ) الأنصاري ( عن سعيد ) بكسر العين ( بن أبي سعيد المقبري ) بفتح الباء وضمها نسبة إلى المقبرة ، قال ابن عبد البر : كذا رواه يحيى وابن وهب وابن القاسم ومطرف وابن بكير وأبو مصعب والجمهوري ، ورواه معن بن عيسى والقعنبي عن مالك عن سعيد بن أبي سعيد لم يذكرا يحيى بن سعيد فيمكن أن مالكا سمعه من يحيى عن سعيد ثم سمعه من سعيد ، وقد رواه الليث وابن أبي ذئب عن سعيد المقبري انتهى .

                                                                                                          أي بلا واسطة يحيى بن سعيد ، ومن طريق الليث رواه مسلم ، ورواه أيضا من طريق يزيد بن هارون عن يحيى بن سعيد المقبري فأثبت الواسطة وهذا يؤيد أن مالكا حدث به بالوجهين ( عن عبد الله بن أبي قتادة ) الأنصاري المدني مات سنة خمس وتسعين ( عن أبيه ) الصحابي فارس المصطفى ( أنه قال : جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) وفي رواية الليث عند مسلم : أنه - صلى الله عليه وسلم - قام فيهم فذكر لهم أن الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله أفضل الأعمال فقام رجل ( فقال : يا رسول الله إن قتلت في سبيل الله ) الجهاد حال كوني ( صابرا محتسبا ) أي مخلصا ( مقبلا ) على القتال وزاد ( غير مدبر ) لبيان كون الإقبال في جميع [ ص: 55 ] الأحوال إذ قد يقبل مرة ويدبر أخرى فيصدق عليه أنه مقبل ( أيكفر الله عني خطاياي ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : نعم ) يكفر ( فلما أدبر الرجل ناداه ) دعاه ( رسول الله ) بنفسه ( أو أمر به فنودي له ) شك الراوي ( فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) أخبرني ( كيف قلت ؟ فأعاد عليه قوله ) المذكور ( فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : نعم إلا الدين

                                                                                                          ) بفتح الدال فلا يكفره إلا عفو صاحبه أو استيفاؤه . قال ابن عبد البر : فيه أن الخطايا تكفر بالأعمال الصالحة مع الاحتساب والنية في العمل ، وأن أعمال البر المقبولة لا تكفر من الذنوب إلا ما بين العبد وبين ربه ، فأما التبعات فلا بد فيها من القصاص .

                                                                                                          قال : وهذا في دين ترك له وفاء ولم يوص به أو قدر على الأداء فلم يؤد أو أنه في غير حق أو سرف ومات ولم يوفه ، أما من أدان في حق واجب لفاقة وعسر ومات ولم يترك وفاء فلا يحبس عن الجنة لأن على السلطان فرضا أن يؤدي عنه دينه من الصدقات أو سهم الغارمين أو الفيء .

                                                                                                          وقد قيل : إن تشديده - صلى الله عليه وسلم - في الدين كان قبل الفتوح انتهى .

                                                                                                          وقال القرطبي والنووي : فيه تنبيه على جميع حقوق الآدميين ، وإن الجهاد والشهادة وغيرهما من أعمال البر لا تكفر حقوق الآدميين وإنما تكفر حقوق الله تعالى .

                                                                                                          وقال الحافظ ويستفاد منه أن الشهادة لا تكفر التبعات وهي لا تمنع درجة الشهادة ، وليس للشهادة معنى إلا أن يثبت من حصلت له ثوابا مخصوصا ويكرمه كرامة زائدة ، وقد بين الحديث أنه يكفر عنه ما عدا التبعات ، فإن كان له عمل صالح كفرت الشهادة سيئاته غير التبعات ونفعه عمله الصالح في موازنة ما عليه من التبعات ويبقى له درجة الشهادة خالصة ، فإن لم يكن له عمل صالح فهو تحت المشيئة انتهى .

                                                                                                          وقال ابن الزملكاني : فيه تنبيه على أن حقوق الآدميين لا تكفر لكونها مبنية على المشاحة والتضييق ، ويمكن أن يقال هذا محمول على الدين الذي هو خطيئة ، وهو ما استدانه صاحبه على وجه لا يجوز له فعله بأن أخذه بحيلة أو غصبه فثبت في ذمته البدل أو أدان غير عازم على الوفاء لأنه استثنى ذلك من الخطايا ، والأصل في الاستثناء أن يكون من الجنس ويكون الدين المأذون فيه مسكوتا عنه في هذا الاستثناء ، فلا يلزم المؤاخذة به لما يلطف الله بعبده من استيهابه له وتعويض صاحبه من فضل الله .

                                                                                                          فإن قيل : ما تقول فيمن مات وهو عاجز عن الوفاء ولو وجد وفاء وفى ؟ قلت : إن كان المال الذي لزم ذمته إنما لزمها بطريق لا يجوز تعاطي مثله كغصب أو إتلاف مقصود فلا تبرأ الذمة من ذلك إلا بوصوله إلى من وجب له أو بإبرائه منه ولا تسقطه التوبة ، وإنما تنفع التوبة في الأخروية فيما يختص بحق الله تعالى لمخالفته إلى ما نهى الله عنه ، وإن كان المال لزمه بطريق سائغ وهو عازم [ ص: 56 ] على الوفاء ولم يقدر فهذا ليس بصاحب ذنب حتى يتوب عنه ويرجى له الخير في العقبى ما دام على هذا الحال انتهى ، وهو نفيس ، وقد سبقه إلى معناه أبو عمر كما رأيته .

                                                                                                          ( كذلك قال لي جبريل ) وفي رواية عند أبي عمر : " إلا الدين فإنه مأخوذ كما زعم جبريل " أي قال من إطلاق الزعم على القول الحق .

                                                                                                          قال ابن عبد البر : فيه دليل على أن من الوحي ما يتلى وما لا يتلى وما هو قرآن وما ليس بقرآن ، وقد قيل في قوله تعالى : ( واذكرن ما يتلى في بيوتكن من آيات الله والحكمة ) ( سورة الأحزاب : الآية 34 ) أن القرآن الآيات والحكمة السنة وكل من الله ، إلا ما قام عليه الدليل فإنه لا ينطق عن الهوى انتهى .

                                                                                                          وفي الطبراني برجال ثقات عن ابن مسعود رفعه : " القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها إلا الأمانة والأمانة في الصلاة والأمانة في الصوم والأمانة في الحديث وأشد ذلك الودائع " وهذا يعارضه حديث الباب الظاهر في أنه يكفر جميع حقوق الله ومنها الصلاة والصوم إلا أنه يحمل على أنه مطلق استشهاد .

                                                                                                          وحديث أبي قتادة مقيد بأنه صابر محتسب مقبل غير مدبر .




                                                                                                          الخدمات العلمية