الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            ( 3863 ) فصل في الإقرار بالمجهول : وإذا قال : لفلان علي شيء . أو كذا . صح إقراره ، ولزمه تفسيره . وهذا لا خلاف فيه ، ويفارق الدعوى ، حيث [ ص: 109 ] لا تصح مجهولة ; لكون الدعوى له والإقرار عليه ، فلزمه ما عليه مع الجهالة دون ماله ، ولأن المدعي إذا لم يصحح دعواه ، فله داع إلى تحريرها ، والمقر لا داعي له إلا التحرير ، ولا يؤمن رجوعه عن إقراره ، فيضيع حق المقر له ، فألزمناه إياه مع الجهالة ، فإن امتنع من تفسيره ، حبس حتى يفسر .

                                                                                                                                            وقال القاضي : يجعل ناكلا ، ويؤمر المقر له بالبيان ، فإن بين شيئا ، فصدقه المقر ، ثبت ، وإن كذبه ، وامتنع من البيان ، قيل له : إن بينت ، وإلا جعلناك ناكلا ، وقضينا عليك . وهذا قول أصحاب الشافعي ، إلا أنهم قالوا : إن بينت وإلا حلفنا المقر له على ما يدعيه ، وأوجبناه عليك . فإن فعل ، وإلا أحلفنا المقر له ، وأوجبناه على المقر .

                                                                                                                                            ووجه الأول ، أنه ممتنع من حق عليه ، فيحبس به ، كما لو عينه وامتنع من أدائه . ومع ذلك متى عينه المدعي وادعاه ، فنكل المقر ، فهو على ما ذكروه . وإن مات من عليه الحق ، أخذ ورثته بمثل ذلك ; لأن الحق ثبت على موروثهم ، فيتعلق بتركته وقد صارت إلى الورثة ، فيلزمهم ما لزم موروثهم ، كما لو كان الحق معينا . وإن لم يخلف الميت تركة ، فلا شيء على الورثة . ومتى فسر إقراره بما يتمول في العادة ، قبل تفسيره وثبت ، إلا أن يكذبه المقر له ، ويدعي جنسا آخر ، أو لا يدعي شيئا ، فيبطل إقراره . وإن فسره بما لا يتمول عادة ، كقشرة جوزة ، أو قشرة باذنجانة ، لم يقبل إقراره ; لأن إقراره اعتراف بحق عليه ثابت في ذمته ، وهذا لا يثبت في الذمة .

                                                                                                                                            وكذلك إن فسره بما ليس بمال في الشرع ، كالخمر والخنزير والميتة ، لم يقبل . وإن فسره بكلب لا يجوز اقتناؤه ، فكذلك . وإن فسره بكلب يجوز اقتناؤه ، أو جلد ميتة غير مدبوغ ، ففيه وجهان ; أحدهما ، يقبل ; لأنه شيء يجب رده عليه ، وتسليمه إليه ، فالإيجاب يتناوله . والثاني ، لا يقبل ; لأن الإقرار إخبار عما يجب ضمانه ، وهذا لا يجب ضمانه . وإن فسره بحبة حنطة أو شعير ونحوها ، لم يقبل ; لأن هذا لا يتمول عادة على انفراده .

                                                                                                                                            وإن فسره بحد قذف ، قبل ; لأنه حق يجب عليه . ويحتمل أن لا يقبل ; لأنه لا يئول إلى مال . والأول أصح ; لأن ما ثبت في الذمة صح أن يقال : هو علي . وإن فسره بحق شفعة ، قبل ; لأنه حق واجب ، ويئول إلى المال . وإن فسره برد السلام ، أو تشميت العاطس ونحوه ، لم يقبل ; لأنه يسقط بفواته ، فلا يثبت في الذمة .

                                                                                                                                            وهذا الإقرار يدل على ثبوت الحق في الذمة . ويحتمل أن يقبل تفسيره به ، إذا أراد أن حقا علي رد سلامه إذا سلم ، وتشميته إذا عطس ; لما روي في الخبر : { للمسلم على المسلم ثلاثون حقا : يرد سلامه ، ويشمت عطسته ، ويجيب دعوته . وذكر الحديث } .

                                                                                                                                            وإن قال : غصبته شيئا . وفسره بما ليس بمال ، قبل ; لأن اسم الغصب يقع عليه . وإن قال : غصبته نفسه . لم يقبل ; لأن الغصب لا يثبت عليه . وهذا الفصل أكثره مذهب الشافعي . وحكي عن أبي حنيفة ، أنه لا يقبل تفسير إقراره بغير المكيل والموزون ; لأن غيرهما لا يثبت في الذمة بنفسه .

                                                                                                                                            ولنا ، أنه مملوك يدخل تحت العقد ، فجاز أن يفسر به الشيء في الإقرار ، كالمكيل والموزون ، ولأنه يثبت في الذمة في الجملة ، فصح التفسير كالمكيل ، ولا عبرة بسبب ثبوته في الإقرار به ، والإخبار عنه .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية