الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                وعلى هذا إذا دخل مسلم أو ذمي دار الحرب بأمان ، فعاقد حربيا عقد الربا أو غيره من العقود الفاسدة في حكم الإسلام جاز عند أبي حنيفة ، ومحمد - رحمهما الله - وكذلك لو كان أسيرا في أيديهم أو أسلم في دار الحرب ولم يهاجر إلينا ، فعاقد حربيا وقال أبو يوسف : لا يجوز للمسلم في دار الحرب إلا ما يجوز له في دار الإسلام .

                                                                                                                                ( وجه ) قوله أن حرمة الربا ثابتة في حق العاقدين ، أما في حق المسلم فظاهر .

                                                                                                                                وأما في حق الحربي فلأن الكفار مخاطبون بالحرمات وقال - تعالى جل شأنه - { وأخذهم الربا وقد نهوا عنه } ولهذا حرم مع الذمي والحربي الذي دخل دارنا بأمان .

                                                                                                                                ( وجه ) قولهما أن أخذ الربا في معنى إتلاف المال ، وإتلاف مال الحربي مباح ، وهذا لأنه لا عصمة لمال الحربي ، فكان المسلم بسبيل من أخذه إلا بطريق الغدر والخيانة ، فإذا رضي به انعدم معنى الغدر ، بخلاف الذمي والحربي المستأمن ; لأن أموالهما معصومة على الإتلاف ، ولو عاقد هذا المسلم الذي دخل بأمان مسلما أسلم هناك ولم يهاجر إلينا جاز عند أبي حنيفة ، وعندهما لا يجوز ولو كانا أسيرين أو دخلا بأمان للتجارة فتعاقدا عقد الربا أو غيره من البياعات الفاسدة لا يجوز بالاتفاق .

                                                                                                                                ( وجه ) قولهما أن أخذ الربا من المسلم إتلاف مال معصوم من غير رضاه معنى ; لأن الشرع حرم عليه أن تطيب نفسه بذلك بقوله عليه الصلاة والسلام { : من زاد واستزاد فقد أربى } والساقط شرعا ، والعدم حقيقة سواء فأشبه تعاقد الأسيرين والتاجرين .

                                                                                                                                ( وجه ) قول أبي حنيفة رضي الله عنه أن أخذ الربا في معنى إتلاف المال ، ومال الذي أسلم في دار الحرب ، ولم يهاجر إلينا غير مضمون بالإتلاف ، يدل عليه أن نفسه غير مضمونة بالقصاص ولا بالدية عندنا ، وحرمة المال تابعة لحرمة النفس ، بخلاف التاجرين والأسيرين ، فإن مالهما مضمون بالإتلاف ، وعلى هذا إذا دخل مسلم دار الحرب بأمان ، فأدانه حربي أو أدان حربيا ، ثم خرج المسلم وخرج الحربي مستأمنا ، فإن القاضي لا يقضي لواحد منهما على صاحبه بالدين ، وكذلك لو غصب أحدهما صاحبه شيئا لا يقضي بالغصب ; لأن المداينة في دار الحرب وقعت هدرا ; [ ص: 133 ] لانعدام ولايتنا عليهم وانعدام ولايتهم أيضا في حقنا ، وكذا غصب كل واحد منهما صادف مالا غير مضمون فلم ينعقد سببا لوجوب الضمان .

                                                                                                                                وكذلك لو كان حربيين داين أحدهما صاحبه ثم خرجا مستأمنين ، ولو خرجا مسلمين لقضي بالدين لثبوت الولاية ، ولا يقضى بالغصب لما بينا إلا أن المسلم لو كان هو الغاصب يفتى بأن يرد عليهم ولا يقضى عليه ; لأنه صار غادرا بهم ناقضا عهدهم ، فتلزمه التوبة ، ولا تتحقق التوبة إلا برد المغصوب ، وعلى هذا : مسلمان دخلا دار الحرب بأمان بأن كانا تاجرين مثلا فقتل أحدهما صاحبه عمدا لا قصاص على القاتل لما بينا ، وإن كان خطأ فعليه الدية في ماله ، والكفارة ; لأنهما من أهل دار الإسلام ، وإنما دخلا دار الحرب لعارض أمر ، إلا أنه يجب القصاص للشبهة ، أو لتعذر الاستيفاء على ما بينا ولو كانا أسيرين ، أو كان المقتول أسيرا مسلما فلا شيء على القاتل إلا الكفارة في الخطأ عند أبي حنيفة رضي الله عنه وعندهما عليه الكفارة والدية .

                                                                                                                                ( وجه ) قولهما أن الأسيرين من أهل دار الإسلام كالمستأمنين ، وإنما الأسر أمر عارض ، ولأبي حنيفة رضي الله عنه أن الأسير مقهور في يد أهل الحرب ، فصار تابعا لهم فبطل تقومه - والله سبحانه وتعالى - أعلم وعلى هذا : الحربي إذا أعتق عبده الحربي في دار الحرب لا ينفذ عندهما ، وعند أبي يوسف - رحمه الله - ينفذ وقيل لا خلاف في العتق أنه ينفذ ، إنما الخلاف في الولاء أنه هل يثبت منه ؟ عندهما لا يثبت وعنده يثبت .

                                                                                                                                ( وجه ) قوله أن ركن الإعتاق صدر من أهل الإعتاق في محل مملوك للمعتق ، فيصح كما لو أعتق في دار الإسلام .

                                                                                                                                ( وجه ) قولهما أن الإعتاق في دار الحرب لا يفيد زوال الملك ; لأن الملك في دار الحرب بالقهر والغلبة حقيقة ، فكل مقهور مملوك ، وكل قاهر مالك ، هذا ديانتهم فإنهم لا يعرفون سوى القدرة الحقيقية ، حتى إن العبد منهم إذا قهر مولاه يصير هو مالكا ، ومولاه مملوكا ، وهذا لا يفيده الإعتاق في دار الحرب ، فلا يوجب زوال ملك المالك ، هذا معنى قول مشايخنا لأبي حنيفة رضي الله عنه معتق بلسانه مسترق بيده .

                                                                                                                                وكذلك لو اشترى قريبا لا يعتق عليه ; لأنه لا يعتق بصريح الإعتاق فكيف يعتق بالشراء وكذلك لو دبره أو كاتبه في دار الحرب حتى لو دخل دار الإسلام ، ومعه مدبر أو مكاتب دبره أو كاتبه في دار الحرب جاز بيعه ; لأن التدبير إعتاق مضاف إلى ما بعد الموت ، والكتابة تعليق العتق بشرط أداء بدل الكتابة ، ثم لم ينفذ إعتاقه المنجز ، فكذا المعلق والمضاف ، ولو استولد أمته في دار الحرب صح استيلاده إياها ، حتى لو خرج إلينا بها إلى دار الإسلام لا يجوز بيعها ; لأن الاستيلاد اكتساب ثبات النسب للولد .

                                                                                                                                والحربي من أهل ذلك ، ألا ترى أن أنساب أهل الحرب ثابتة ؟ وإذا ثبت النسب صارت أم ولد ، فخرجت عن محلية البيع ; لكونها حرة من وجه قال عليه الصلاة والسلام { : أعتقها ولدها } ولو دخل الحربي إلينا بأمان ففعل شيئا من ذلك نفذ كله ; لأنه لما دخل بأمان فقد لزمه أحكام الإسلام ما دام في دار الإسلام .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية