الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                ( ومنها ) أن يكون نصابا ، والكلام في هذا الشرط يقع في ثلاثة مواضع : أحدها في أصل النصاب أنه شرط أم لا ؟ ، والثاني : في بيان [ ص: 77 ] قدره ، والثالث : في بيان صفاته .

                                                                                                                                ( أما ) الأول فقد اختلف فيه قال عامة العلماء : إنه شرط فلا قطع فيما دون النصاب ، وحكي عن الحسن البصري - رحمه الله - أنه ليس بشرط ، ويقطع في القليل ، والكثير ، وهو قول الخوارج ، واحتجوا بظاهر قوله سبحانه ، وتعالى { : والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } من غير شرط النصاب .

                                                                                                                                وروي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال { : لعن الله السارق يسرق الحبل فتقطع يده ، ويسرق البيضة فتقطع يده } ، ومعلوم أن من الحبال ما لا يساوي دانقا ، والبيضة لا تساوي حبة .

                                                                                                                                ( ولنا ) دلالة النص ، والإجماع من الصحابة ، أما دلالة النص ; فلأن الله سبحانه وتعالى أوجب القطع على السارق والسارقة ، والسارق اسم مشتق من معنى ، وهو السرقة ، والسرقة اسم للأخذ على سبيل الاستخفاء ، ومسارقة الأعين ، وإنما تقع الحاجة في الاستخفاء فيما له خطر ، والحبة لا خطر لها فلم يكن أخذها سرقة ، فكان إيجاب القطع على السارق اشتراطا للنصاب دلالة .

                                                                                                                                ( وأما ) الإجماع فإن الصحابة - رضوان الله عليهم - أجمعوا على اعتبار النصاب ، وإنما جرى الاختلاف بينهم في التقدير ، واختلافهم في التقدير إجماع منهم على أن أصل النصاب شرط ، وبه تبين أن ما رووا من الحديث غير ثابت ، أو منسوخ ، أو يحمل المذكور على حبل له خطر كحبل السفينة ، وبيضة خطيرة كبيضة الحديد توفيقا بين الدلائل ، والله تعالى أعلم .

                                                                                                                                ( وأما ) الكلام في قدر النصاب فقد اختلف فيه أيضا قال أصحابنا رضي الله عنهم : إنه مقدر بعشرة دراهم فلا قطع في أقل من عشرة دراهم ، وقال مالك - رحمه الله - وابن أبي ليلى بخمسة ، وذكر القدوري - رحمه الله - عند مالك - رحمه الله - بثلاثين ، وقال الشافعي : بربع دينار حتى لو سرق ربع دينار إلا حبة ، وهو مع نقصانه يساوي عشرة لا يقطع عنده ، وعندنا يقطع ولو سرق ربع دينار لا يساوي عشرة لم يقطع عندنا ، وعنده يقطع ، وقيمة الدينار عندنا عشرة ، وعنده اثنا عشر على ما نبين في كتاب الديات احتج من اعتبر الخمسة بما روي عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال : { لا تقطع الخمسة إلا بخمسة } ، واحتج الشافعي - رحمه الله - بما روي عن - سيدتنا - عائشة رضي الله عنها عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال { : تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعدا } .

                                                                                                                                وروي عن - سيدنا - عمر رضي الله عنه { أنه عليه الصلاة والسلام قطع في مجن قيمته ثلاثة دراهم : } ، وهي قيمة ربع دينار عنده ; لأن الدينار على أصله مقوم باثني عشر درهما .

                                                                                                                                ( ولنا ) ما روى محمد في الكتاب بإسناده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو بن العاص عنه عليه الصلاة والسلام { أنه كان لا يقطع إلا في ثمن مجن } ، وهو يومئذ يساوي عشرة دراهم ، وفي رواية عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { : لا قطع فيما دون عشرة دراهم } .

                                                                                                                                وعن ابن مسعود رضي الله عنه عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال { : لا تقطع اليد إلا في دينار ، أو في عشرة دراهم } ، وعن ابن عباس رضي الله عنه عن رسول الله عليه الصلاة والسلام أنه قال { : لا يقطع السارق إلا في ثمن المجن } ، وكان يقوم يومئذ بعشرة دراهم ، وعن ابن أم أيمن أنه قال { ما قطعت يد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا في ثمن المجن : } ، وكان يساوي يومئذ عشرة دراهم ، وذكر محمد في الأصل أن - سيدنا - عمر رضي الله عنه أمر بقطع يد سارق ثوب بلغت قيمته عشرة دراهم فمر به - سيدنا - عثمان رضي الله عنه فقال : إن هذا لا يساوي إلا ثمانية فدرأ - سيدنا - عمر القطع عنه ، وعن - سيدنا - عمر ، وسيدنا عثمان ، وسيدنا علي ، وابن مسعود رضي الله عنه مثل مذهبنا ، والأصل أن الإجماع انعقد على وجوب القطع في العشرة .

                                                                                                                                وفيما دون العشرة اختلف العلماء ; لاختلاف الأحاديث فوقع الاحتمال في وجوب القطع فلا يجب مع الاحتمال ، وإذا عرف أن النصاب شرط وجوب القطع بالسرقة فإن وجد ذلك القدر في أخذ سرقة واحدة قطع ; لوجود الشرط ، وهو كمال النصاب ، وإن اختلفت السرقة لم يقطع ; لفقد الشرط ، وعلى هذا مسائل إذا دخل رجل دار الرجل فسرق من بيت فيها درهما فأخرجه إلى صحنها ، ثم عاد فأخذ درهما من البيت فأخرجه ، ثم عاد فأخذ درهما من البيت فأخرجه فلم يزل يفعل حتى أخذ عشرة دراهم ، ثم أخرج العشرة من الدارقطع ; لأن هذه سرقة واحدة ; لأن الدار مع صحنها ، وبيوتها حرز ، واحد فما دام في الدار لم يوجد الإخراج من الحرز فإذا أخرج من الدار جملة فقد وجد إخراج نصاب من الحرز فيجب القطع .

                                                                                                                                ولو كان خرج في كل مرة من الدار ، ثم عاد حتى فعل ذلك عشر مرات لم يقطع ; لأن هذه سرقات إذ كل فعل منه إخراج من الحرز ، فكان [ ص: 78 ] كل فعل منه معتبرا بنفسه ، وأنه سرقة ما دون النصاب فلا يوجب القطع ، وكذلك جماعة دخلوا دارا ، وأخرجوا من بيت من بيوتها المتاع مرة بعد أخرى إلى صحن الدار ، ثم أخرجوه من الصحن دفعة واحدة يقطعون إذا كان ما أخرجوا يخص كل واحد منهم عشرة دراهم ، وإن تفرق الإخراج يعتبر كل واحد بنفسه ; لأن الإخراج جملة واحدة فهو سرقة واحدة فإذا تفرق فهو سرقات ، فكان كل واحد معتبرا بنفسه ولو سرق رجل واحد عشرة دراهم من منزلين مختلفين بأن سرق منه درهما ، أو تسعة لم يقطع ; لأنهما سرقتان مختلفتان ; لأن كل واحد من المنزلين حرز بانفراده فهتك أحدهما بما دون النصاب لا يعتبر في هتك الآخر فيبقى كل ، واحد منهما معتبرا في نفسه .

                                                                                                                                ولو سرق رجل عشرة دراهم لعشرة أنفس في موضع واحد قطع ، وإن تفرق ملاكها يعتبر في ذلك حال السارق ، والسارق واحد ، فكان النصاب كاملا ، وإنما اعتبر حال السارق دون المسروق منه ; لأن كمال النصاب شرط وجوب القطع ، والقطع عليه فيعتبر جانب من عليه ، ولا يعتبر جانب المسروق منه ; لأن الحكم لم يجب له ، بل لله - سبحانه وتعالى - وإن كان عشرة أنفس في دار كل واحد في بيت على حدة فسرق من كل واحد منهم درهما يقطع إذا خرج بالجميع من الدار ; لما ذكرنا أن الدار حرز واحد .

                                                                                                                                وقد أخرج منها نصابا كاملا ، فكانت السرقة واحدة ، وإن اختلف المسروق منه ولو كانت الدار عظيمة فيها حجر لكل واحد حجرة فسرق من كل حجرة أقل من عشرة لم يقطع ; لأن ذلك سرقات إذ كل حجرة حرز بانفرادها ، والسرقات إذا اختلفت يعتبر في كل واحد منها كمال النصاب ، ولم يوجد ولو سرق عشرة أنفس من رجل واحد عشرة دراهم لم يقطعوا ، بخلاف الواحد إذا سرق عشرة دراهم من عشرة أنفس أنه يقطع إذا كانت الدراهم في حرز واحد ; لما بينا أن المعتبر جانب السارق لا جانب المسروق منه ، فكانت السرقة واحدة فيعتبر كمال النصاب في حق السارق لا في حق المسروق منه .

                                                                                                                                وسواء كانت الدراهم مجتمعة ، أو متفرقة بعد أن كان الحرز واحدا حتى لو سرق عشرة دراهم متفرقا من كل كيس درهما من عشرة أنفس من منزل واحد يقطع ; لأن الحرز واحد فإذا أخرجها منه فقد خرج بنصاب كامل من السرقة فيقطع ولو سرق ثوبا قيمته تسعة دراهم فوضعه على باب الدار ، ثم دخل فأخذ ثوبا آخر يساوي تسعة فأخرجه لم يقطع ; لأنه لم يبلغ المأخوذ في كل واحد منهما نصابا فلا يقطع ، والله - سبحانه وتعالى - أعلم .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية