الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                والثالث : أن يكون معصوم الدم مطلقا ، فلا يقتل مسلم ، ولا ذمي بالكافر الحربي ، ولا بالمرتد لعدم العصمة أصلا ورأسا ، ولا بالحربي المستأمن في ظاهر الرواية ; لأن عصمته ما ثبتت مطلقة بل مؤقتة إلى غاية مقامه في دار الإسلام ، وهذا لأن المستأمن من أهل دار الحرب ، وإنما دخل دار الإسلام لا لقصد الإقامة بل لعارض حاجة يدفعها ثم يعود إلى وطنه الأصلي ، فكانت في عصمته شبهة العدم .

                                                                                                                                وروي عن أبي يوسف أنه يقتل به قصاصا لقيام العصمة وقت القتل ، وهل يقتل المستأمن بالمستأمن ؟ ذكر في السير الكبير أنه يقتل ، وروى ابن سماعة عن محمد أنه لا يقتل .

                                                                                                                                ولا يقتل العادل بالباغي لعدم العصمة بسبب الحرب ، لأنهم يقصدون أموالنا وأنفسنا ويستحلونها ، وقد قال : عليه الصلاة والسلام { قاتل دون نفسك } ، وقال عليه الصلاة والسلام { قاتل دون مالك } ، ولا يقتل الباغي بالعادل أيضا عندنا ، وعند الشافعي رحمه الله يقتل ، لأن المقتول معصوم مطلقا .

                                                                                                                                ( ولنا ) أنه غير معصوم في زعم الباغي ، لأنه يستحل دم العادل بتأويل ، وتأويله وإن كان فاسدا لكن له منعة ، والتأويل الفاسد عند وجود المنعة ألحق بالتأويل الصحيح في حق وجوب الضمان بإجماع الصحابة رضي الله عنهم ، فإنه روي عن الزهري أنه قال : وقعت الفتنة ، والصحابة متوافرون ، فاتفقوا على أن كل دم استحل بتأويل القرآن العظيم فهو موضوع ، وعلى هذا يخرج ما إذا قال الرجل لآخر : اقتلني ، فقتله أنه لا قصاص عليه عند أصحابنا الثلاثة ، وعند زفر يجب القصاص .

                                                                                                                                ( وجه ) قوله أن الآمر بالقتل لم يقدح في العصمة ، لأن عصمة النفس مما لا تحتمل الإباحة بحال ، ألا ترى أنه يأثم بالقول ؟ فكان الأمر ملحقا بالعدم بخلاف الأمر بالقطع ، لأن عصمة الطرف تحتمل الإباحة في الجملة فجاز أن يؤثر الأمر فيها ، ولنا أنه تمكنت في هذه العصمة شبهة العدم ، لأن الأمر ، وإن لم يصح حقيقة فصيغته تورث شبهة ، والشبهة في هذا الباب لها حكم الحقيقة ، وإذا لم يجب القصاص فهل تجب الدية ؟ فيها روايتان عن أبي حنيفة رضي الله عنه في رواية تجب ، وفي رواية لا تجب ، وذكر القدوري - رحمه الله - أن هذا أصح الروايتين ، وهو قول أبي يوسف ، ومحمد - رحمهما الله - ، وينبغي أن يكون الأصح هي الأولى ; لأن العصمة قائمة مقام الحرمة ، وإنما سقط القصاص لمكان الشبهة ، والشبهة لا تمنع وجوب المال ، ولو قال اقطع يدي فقطع لا شيء عليه بالإجماع ; لأن الأطراف يسلك بها مسلك الأموال ، وعصمة الأموال تثبت حقا له ، فكانت محتملة للسقوط بالإباحة والإذن ، كما لو قال له : أتلف مالي فأتلفه ، ولو قال : اقتل عبدي أو اقطع يده فقتل أو قطع فلا ضمان عليه ; لأن عبده ماله ، وعصمة ماله ثبتت حقا له فجاز أن يسقط بإذنه كما في سائر أمواله ، ولو قال : اقتل أخي فقتله ، وهو وارثه القياس أن يجب القصاص ، وهو قول زفر رحمه الله ، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه أستحسن أن آخذ الدية من القاتل .

                                                                                                                                ( وجه ) القياس أن الأخ الآمر أجنبي عن دم أخيه فلا يصح إذنه بالقتل فالتحق بالعدم .

                                                                                                                                ( وجه ) الاستحسان أن القصاص لو وجب بقتل أخيه لوجب له ، والقتل حصل بإذنه ، والإذن إن لم يعمل شرعا لكنه وجد حقيقة من حيث الصيغة ، فوجوده يورث شبهة كالإذن بقتل نفسه ، والشبهة لا تؤثر في وجوب المال ، وروى أبو يوسف عن أبي حنيفة رضي الله عنهما فيمن أمر إنسانا أن يقتل ابنه فقتله أنه يقتل به ، وهذا يوجب اختلاف الروايتين في المسألتين ، ولو أمره أن يشجه فشجه فلا شيء عليه إن لم يمت من الشجة ; لأن الأمر بالشجة كالأمر بالقطع ، وإن مات منها كانت عليه الدية كذا ذكر في الكتاب ، ويحتمل هذا أن يكون على أصل أبي حنيفة رحمه الله خاصة بناء على أن العفو عن الشجة لا يكون عفوا عن القتل عنده ، فكذا الأمر بالشجة لا يكون أمرا بالقتل ، ولما مات تبين أن الفعل ، وقع قتلا من حين وجوده لا شجا ، وكان [ ص: 237 ] القياس أن يجب القصاص إلا أنه سقط للشبهة فتجب الدية ، فأما على أصلهما فينبغي أن لا يكون عليه شيء ، لأن العفو عن الشجة يكون عفوا عن القتل عندهما ، فكذا الأمر بالشجة يكون أمرا بالقتل .

                                                                                                                                روى ابن سماعة عن محمد - رحمهما الله - فيمن أمر إنسانا بأن يقطع يده ففعل فمات من ذلك أنه لا شيء على قاطعه ، ويحتمل أن يكون هذا قولهما خاصة ، كما قالا فيمن له القصاص في الطرف إذا قطع طرف من عليه القصاص فمات : إنه لا شيء عليه فأما على قول أبي حنيفة رحمه الله فينبغي أن تجب الدية ; لأنه لما مات تبين أن الفعل وقع قتلا ، والمأمور به القطع لا القتل ، وكان القياس أن يجب القصاص كما قال فيمن له القصاص في الطرف ، إلا أنه سقط لمكان الشبهة فتجب الدية ، وعلى هذا يخرج الحربي إذا أسلم في دار الحرب ، ولم يهاجر إلينا فقتله مسلم أنه لا قصاص عليه عندنا ، لأنه وإن كان مسلما فهو من أهل دار الحرب قال الله تبارك وتعالى { فإن كان من قوم عدو لكم ، وهو مؤمن } فكونه من أهل دار الحرب أورث شبهة في عصمته ، ولأنه إذا لم يهاجر إلينا فهو مكثر سواد الكفرة ، ومن كثر سواد قوم فهو منهم على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو وإن لم يكن منهم دينا فهو منهم دارا فيورث الشبهة .

                                                                                                                                ولو كانا مسلمين تاجرين أو أسيرين في دار الحرب فقتل أحدهما صاحبه فلا قصاص أيضا ، وتجب الدية ، والكفارة في التاجرين ، وفي الأسيرين خلاف ما ذكرناه في كتاب السير ، ولا يشترط أن يكون المقتول مثل القاتل في كمال الذات ، وهو سلامة الأعضاء ، ولا أن يكون مثله في الشرف ، والفضيلة فيقتل سليم الأطراف بمقطوع الأطراف ، والأشل ، ويقتل العالم بالجاهل ، والشريف بالوضيع ، والعاقل بالمجنون ، والبالغ بالصبي ، والذكر بالأنثى ، والحر بالعبد ، والمسلم بالذمي الذي يؤدي الجزية ، وتجري عليه أحكام الإسلام ، وقال الشافعي رحمه الله : كون المقتول مثل القاتل في شرف الإسلام والحرية شرط وجوب القصاص ، ونقصان الكفر ، والرق يمنع من الوجوب ، فلا يقتل المسلم بالذمي ، ولا الحر بالعبد ، ولا خلاف في أن الذمي إذا قتل ذميا ثم أسلم القاتل أنه يقتل به قصاصا ، وكذا العبد إذا قتل عبدا ثم عتق القاتل احتج في عدم قتل المسلم بالذمي بما روي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال { لا يقتل مؤمن بكافر } ، وهذا نص في الباب ، ولأن في عصمته شبهة العدم لثبوتها مع القيام المنافي ، وهو الكفر ; لأنه مبيح في الأصل لكونه جناية متناهية فيوجب عقوبة متناهية ، وهو القتل لكونه من أعظم العقوبات الدنيوية ، إلا أنه منع من قتله لغيره ، وهو نقض العهد الثابت بالذمة فقيامه يورث شبهة ; ولهذا لا يقتل المسلم بالمستأمن فكذا الذمي ; ولأن المساواة شرط وجوب القصاص ، ولا مساواة بين المسلم ، والكافر ، ألا ترى أن المسلم مشهود له بالسعادة ، والكافر مشهود له بالشقاء فأنى يتساويان ؟ .

                                                                                                                                ( ولنا ) عمومات القصاص من نحو قوله تبارك وتعالى { كتب عليكم القصاص في القتلى } ، وقوله سبحانه ، وتعالى { ، وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس } ، وقوله جلت عظمته { ، ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا } من غير فصل بين قتيل وقتيل ، ونفس ونفس ، ومظلوم ومظلوم ، فمن ادعى التخصيص والتقييد فعليه الدليل ، وقوله سبحانه ، وتعالى عز من قائل { ، ولكم في القصاص حياة } ، وتحقيق معنى الحياة في قتل المسلم بالذمي أبلغ منه في قتل المسلم بالمسلم ; لأن العداوة الدينية تحمله على القتل خصوصا عند الغضب ، ويجب عليه قتله لغرمائه فكانت الحاجة إلى الزاجر أمس فكان في شرع القصاص فيه في تحقيق معنى الحياة أبلغ ، وروى محمد بن الحسن - رحمهما الله - بإسناده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه { أقاد مؤمنا بكافر ، وقال عليه الصلاة والسلام أنا أحق من وفى ذمته } .

                                                                                                                                وأما الحديث فالمراد من الكافر المستأمن ، لأنه قال عليه الصلاة والسلام { لا يقتل مؤمن بكافر ، ولا ذو عهد في عهده } عطف قوله ، { ولا ذو عهد في عهده } على المسلم فكان معناه لا يقتل مؤمن بكافر ، ولا ذو عهد به ، ونحن به نقول أو نحمله على هذا توفيقا بين الدلائل صيانة لها عن التناقض .

                                                                                                                                وأما قوله : " في عصمته شبهة العدم " ممنوع بل دمه حرام لا يحتمل الإباحة بحال مع قيام الذمة بمنزلة دم المسلم مع قيام الإسلام ، وقوله : " الكفر مبيح على الإطلاق " ممنوع بل المبيح هو الكفر الباعث على الحراب ، وكفره ليس بباعث على الحراب فلا يكون مبيحا ، وقوله : " لا مساواة بين المسلم والكافر " قلنا : المساواة في الدين ليس بشرط ، ألا ترى أن الذمي إذا قتل ذميا ثم أسلم القاتل يقتل به قصاصا ، ولا [ ص: 238 ] مساواة بينهما في الدين ، لكن القصاص محنة امتحنوا الخلق بذلك ، فكل من كان أقبل بحق الله تعالى ، وأشكر لنعمه كان أولى بهذه المحنة ، لأن العذر له في ارتكاب المحذور أقل ، وهو بالوفاء بعهد الله تعالى أولى ، ونعم الله تعالى في حقه أكمل فكانت جنايته أعظم ، واحتج في قتل الحر بالعبد بقول الله تبارك وتعالى { الحر بالحر ، والعبد بالعبد } ، وفسر القصاص المكتوب في صدر الآية بقتل الحر بالحر ، والعبد بالعبد فيجب أن لا يكون قتل الحر بالعبد قصاصا ، ولأنه لا مساواة بين النفسين في العصمة لوجهين : أحدهما : أن الحر آدمي من كل وجه ، والعبد آدمي من وجه ، مال من وجه ، وعصمة الحر تكون له ، وعصمة المال تكون للمالك ، والثاني : أن في عصمة العبد شبهة العدم ; لأن الرق أثر الكفر ، والكفر مبيح في الأصل فكان في عصمته شبهة العدم ، وعصمة الحر تثبت مطلقة فأنى يستويان في العصمة ، وكذا لا مساواة بينهما في الفضيلة ، والكمال ; لأن الرق يشعر بالذل والنقصان ، والحرية تنبئ عن العزة ، والشرف .

                                                                                                                                ( ولنا ) عمومات القصاص من غير فصل بين الحر والعبد ; ولأن ما شرع له القصاص ، وهو الحياة لا يحصل إلا بإيجاب القصاص على الحر بقتل العبد ; لأن حصوله يقف على حصول الامتناع عن القتل خوفا على نفسه ، فلو لم يجب القصاص بين الحر والعبد لا يخشى الحر تلف نفسه بقتل العبد فلا يمتنع عن قتله بل يقدمه عليه عند أسباب حاملة على القتل من الغيظ المفرط ، ونحو ذلك ، فلا يحصل معنى الحياة ، ولا حجة له في الآية ، لأن فيها أن قتل الحر بالحر ، والعبد بالعبد قصاص ، وهذا لا ينفي أن يكون قتل الحر بالعبد قصاصا ، لأن التنصيص لا يدل على التخصيص ، ونظيره قوله عليه الصلاة والسلام { البكر بالبكر جلد مائة ، وتغريب عام ، والثيب جلد مائة ، ورجم بالحجارة } ثم البكر إذا زنى بالثيب وجب الحكم الثابت بالحديث ، فدل أنه ليس في ذكر شكل بشكل تخصيص الحكم به ، يدل عليه أن العبد يقتل بالحر ، والأنثى بالذكر ، ولو كان التنصيص على الحكم في نوع موجبا تخصيص الحكم به لما قتل ، ثم قوله تعالى { ، والأنثى بالأنثى } حجة عليكم ، لأنه قال : " الأنثى بالأنثى " مطلقا فيقتضي أن تقتل الحرة بالأمة ، وعندكم لا تقتل ، فكان حجة عليكم ، وقوله : " العبد آدمي من وجه مال من وجه " قلنا : لا ، بل آدمي من كل وجه ; لأن الآدمي اسم لشخص على هيئة مخصوصة منسوب إلى سيدنا آدم عليه الصلاة والسلام والعبد بهذه الصفة فكانت عصمته مثل عصمة الحر بل فوقها ، على أن نفس العبد في الجناية له ، لا لمولاه ، بدليل أن العبد لو أقر على نفسه بالقصاص والحد يؤخذ به ، ولو أقر عليه مولاه بذلك لا يؤخذ به فكان نفس العبد في الجناية له لا للمولى كنفس الحر للحر .

                                                                                                                                وأما قوله : " الحر أفضل من العبد " فنعم لكن التفاوت في الشرف ، والفضيلة لا يمنع وجوب القصاص ؟ ألا ترى أن العبد لو قتل عبدا ثم أعتق القاتل يقتل به قصاصا ، وإن استفاد فضل الحرية .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية