الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                معلومات الكتاب

                                                                                                                                بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع

                                                                                                                                الكاساني - أبو بكر مسعود بن أحمد الكاساني

                                                                                                                                صفحة جزء
                                                                                                                                وأما النوع الذي يحتمل الفسخ فالبيع والشراء والهبة والإجارة ونحوها فالإكراه يوجب فساد هذه التصرفات عند أصحابنا الثلاثة رضي الله عنهم وعند زفر - رحمه الله - يوجب توقفها على الإجازة كبيع الفضولي ، وعند الشافعي - رحمه الله - يوجب بطلانها أصلا ( ووجه ) قولهما أن الرضا شرط البيع شرعا قال الله تعالى { إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم } والإكراه يسلب الرضا يدل عليه أنه لو أجاز المالك يجوز ، والبيع الفاسد لا يحتمل الجواز بالإجازة كسائر البياعات الفاسدة فأشبه بيع الفضولي ، وهذه شبهة زفر - رحمه الله - .

                                                                                                                                ( ولنا ) ظواهر نصوص البيع عاما مطلقا من غير تخصيص وتقييد ، ولأن ركن البيع وهو المبادلة صدر مطلقا من أهل البيع في محل وهو مال مملوك البائع فيفيد الملك عند التسليم كما في سائر البياعات الفاسدة ، ولا فرق سوى أن المفسد هناك لمكان الجهالة أو الربا أو غير ذلك ، وهنا الفاسد لعدم الرضا طبعا فكان الرضا طبعا شرط الصحة لا شرط الحكم ، وانعدام شرط الصحة لا يوجب انعدام الحكم كما في سائر البياعات الفاسدة إلا أن سائر البياعات لا تلحقها الإجازة ; لأن فسادها لحق الشرع من حرمة الربا ونحو ذلك فلا يزول برضا العبد ، وهنا الفساد لحق العبد وهو عدم رضاه فيزول بإجازته ورضاه ، وإذا فسد البيع والشراء بالإكراه فلا بد من بيان ما يتعلق به من الأحكام في الجملة ، والجملة فيه أن الأمر لا يخلو من ثلاثة أوجه .

                                                                                                                                إما إن كان المكره هو البائع وإما أن كان هو المشتري .

                                                                                                                                وإما أن كانا جميعا مكرهين ، فإن كان المكره هو البائع فلا يخلو الأمر فيه من وجهين : إما أن كان مكرها على البيع طائعا في التسليم وإما إن كان مكرها على البيع والتسليم جميعا ، فإن كان مكرها على البيع طائعا في التسليم فباع مكرها وسلم طائعا جاز ; لأن البيع في الحقيقة اسم للمبادلة فإذا سلم طائعا فقد أتى بحقيقة البيع باختياره فيجوز بطريق التعاطي ، فكان ما أتى به من لفظ البيع بالإكراه وجوده وعدمه بمنزلة واحدة إلا أنه لا يكون التسليم منه طائعا إجازة لذلك البيع بل يكون هذا بيعا مبتدأ بطريق التعاطي .

                                                                                                                                والثاني : أن التسليم منه إجازة لذلك البيع ; لأنه ليس من شرط صحة البيع صحة التسليم حتى يكون الإكراه على البيع إكراها على ما لا صحة له بدونه إذ البيع يصح بدون التسليم فكان طائعا في التسليم فصلح أن يكون دليلا للإجازة بخلاف المكره [ ص: 187 ] على الهبة والصدقة إذا سلم طائعا أنه لا يجوز ، ولا يكون التسليم إجازة ; لأن القبض شرط لصحتها ألا ترى أنهما لا يصحان بدون القبض فكان الإكراه عليهما إكراها على القبض فلم يصح التسليم دليلا على الإجازة فهو الفرق هذا إذا كان مكرها على البيع طائعا في التسليم ، فأما إذا كان مكرها عليهما جميعا فباع مكرها وسلم مكرها كان البيع فاسدا ; لأن حقيقة البيع هو المبادلة ، والإكراه يؤثر فيها بالفساد ويثبت الملك للمشتري لما قلنا حتى لو كان المشترى عبدا فأعتقه نفذ إعتاقه ، وعليه قيمة العبد ; لأن بالإعتاق تعذر عليه الفسخ إذ الإعتاق مما لا يحتمل الفسخ فتقرر الهلاك فتقررت عليه القيمة فكان له أن يرجع بقيمة العبد عليه كالبائع .

                                                                                                                                والمكره بالخيار إن شاء رجع على المكره بقيمته ثم المكره يرجع على المشتري ، وإن شاء رجع على المشتري أما حق الرجوع على المكره فلأنه أتلف عليه ماله بإزالة يده عنه فأشبه الغاصب فيرجع عليه بضمان ما أتلفه كالغاصب ثم يرجع بما ضمنه على المشتري ; لأنه ملكه بأداء الضمان فنزل منزلة البائع .

                                                                                                                                وأما حق الرجوع على المشتري فلأنه في حق البائع بمنزلة غاصب الغاصب وللمالك ولاية تضمين غاصب الغاصب كذا هذا ، ولو أعتقه المشتري قبل القبض لا ينفذ إعتاقه ; لأن البيع الفاسد لا يفيد الملك قبل القبض ، والإعتاق لا ينفذ في غير الملك ، فإن أجاز البائع البيع بعد الإعتاق نفذ البيع ولم ينفذ الإعتاق وهذه المسألة من حيث الظاهر تدل على أن الملك يثبت بالإجازة فكانت الإجازة في حكم الإنشاء ، ولكنا نقول : إن الملك يثبت بالبيع السابق عند الإجازة بطريق الاستناد والمستند مقتصر من وجه ظاهر من وجه فجاز أن لا يظهر في حق المعلق بل يقتصر ، وللبائع خيار الفسخ والإجازة في هذا البيع قبل القبض وبعده ; لأن الملك .

                                                                                                                                وإن ثبت بعد القبض لكنه غير لازم لأجل الفساد فيثبت له خيار الفسخ والإجازة قبل القبض وبعده دفعا للفساد .

                                                                                                                                وأما المشتري فله حق الفسخ قبل القبض ; لأنه لا حكم لهذا البيع قبل القبض ، وليس له حق الفسخ بعد القبض ; لأنه طائع في الشراء فكان لازما في جانبه لكن إنما يملك البائع فسخ هذا العقد إذا كان بمحل الفسخ ، فأما إذا لم يكن بأن تصرف المشتري تصرفا لا يحتمل الفسخ كالإعتاق والتدبير والاستيلاد لا يملك الفسخ وتلزمه القيمة ، وإن تصرف تصرفا يحتمل الفسخ كالبيع والإجارة والكفالة ونحوها يملك الفسخ بخلاف سائر البياعات الفاسدة ، فإن تصرف المشتري بإزالة الملك يوجب بطلان حق الفسخ أي تصرف كان .

                                                                                                                                ( ووجه ) الفرق أن حق الفسخ هناك ثبت لمعنى يرجع إلى المملوك من الزيادة والجهالة ونحو ذلك ، وقد زال ذلك المعنى بزوال المملوك عن ملك المشتري بطل حق الفسخ ، فلما ثبت حق الفسخ لمعنى يرجع إلى المالك وهو كراهته وفوات رضاه وأنه قائم ، فكان حق الفسخ ثابتا ، وكذلك لو باعه المشتري الثاني حتى تداولته الأيدي له أن يفسخ العقود كلها لما ذكرنا ، وكذا إنما يملك الإجازة إلا إذا كان بمحل الإجازة ، فأما إذا لم يكن بأن تصرف المشتري تصرفا لا يحتمل الفسخ لا تجوز إجازته حتى لا يجب الثمن على المشتري بل تجب عليه قيمة العبد ; لأن قيام المحل وقت الإجازة شرط لجواز الإجازة ; لأن الحكم يثبت في المحل ثم يستند ، والهالك لا يحتمل الملك فلا يحتمل الإجازة ، والمحل بالإعتاق صار في حكم الهالك وتقرر هلاكه ; لأنه لا يحتمل الفسخ فيتقرر على المشتري قيمته ، وإن تصرف تصرفا يحتمل الفسخ كالبيع ونحوه يملك الإجازة ، وإن تداولته الأيدي .

                                                                                                                                وإذا أجاز واحدا من العقود جازت العقود كلها ما بعد هذا العقد ، وما قبله أيضا بخلاف الغاصب إذا باع المغصوب ثم باعه المشتري هكذا حتى تداولته الأيدي وتوقفت العقود كلها ، فأجاز المالك واحدا منها إنما كان يجوز ذلك العقد خاصة دون غيره ، ولو لم يجز المالك شيئا من العقود ، ولكنه ضمن واحدا منهم يجوز ما بعد عقده دون ما قبله ، والفرق أن في باب الغصب لم ينفذ شيء من العقود بل توقف نفاذ الكل على الإجازة فكانت الإجازة شرط النفاذ فينفذ ما لحقه الشرط دون غيره أما ههنا فالعقود ما توقف نفاذها على الإجازة لوقوعها نافذة قبل الإجازة إذ الفساد لا يمنع النفاذ فكانت الإجازة إزالة الإكراه من الأصل ، ومتى جاز الإكراه من الأصل جاز العقد الأول فتجوز العقود كلها فهو الفرق وبخلاف ما إذا ضمن المغصوب منه أحدهم ; لأنه ملك المغصوب عند اختيار أخذ الضمان منه من وقت جنايته وهو القبض إما [ ص: 188 ] بطريق الظهور وإما بطريق الاستناد على ما عرف في مسائل الخلاف فلا يظهر فيما قبله من العقود ، وههنا بخلافه على ما مر .

                                                                                                                                وإذا قال البائع : أجزت جاز البيع ; لأن المانع من الجواز هو الإكراه ، والإجازة إزالة الإكراه ، وكذا إذا قبض الثمن ; لأن قبض الثمن دليل الإجازة كالفضولي إذا باع مال غيره فقبض المالك الثمن ، ولو لم يعتقه المشتري الأول ولكن أعتقه المشتري قبل الإجازة نفذ إعتاقه ; لأن الملك ثابت له بالشراء وسواء كان قبض العبد أو لا ; لأن شراءه صحيح فيفيد الملك بنفسه بخلاف إعتاق المشتري الأول قبل القبض ; لأن البيع الفاسد لا يفيد الملك بنفسه بل بواسطة القبض ، ولو أعتقه المشتري الأخير ثم أجاز البائع العقد الأول لم تجز إجازته حتى لا يملك المطالبة بالثمن بل تجب القيمة ، وهو بالخيار إن شاء رجع بها على المكره ، والمكره يرجع على المشتري الأول .

                                                                                                                                وإن شاء رجع على أحد المشتريين أيهما كان ، أما الرجوع على المكره فلما ذكرنا في إعتاق المشتري الأول أنه أتلف عليه ملكه معنى فله أن يأخذ منه ضمان الإتلاف ، وللمكره أن يرجع بذلك على المشتري الأول ; لأنه ملك المضمون بأداء الضمان فنزل منزلة البائع ، وكان للبائع أن يرجع عليه بالضمان فكذا له ويصح كل عقد وجد بعد ذلك ، وإن شاء المكره رجع على أحد المشتريين أيهما شاء ; لأن كل واحد منهما في حق البائع بمنزلة غاصب الغاصب ، فإن اختار تضمين المشتري الأول برئ المكره وصحت البياعات كلها ; لأنه ملك المشتري الأول باختيار تضمينه فتبين أنه باع ملك نفسه فصح ، فيصح كل بيع وجد بعد ذلك ، وإن اختار تضمين المشتري الآخر صح كل بيع وجد بعد ذلك وبطل كل بيع كان قبله ; لأنه لما اختار تضمينه فقد خصه بملك المضمون فتبين أن كل بيع كان قبله كان بيع ما لا يملكه البائع فبطل والله سبحانه وتعالى أعلم هذا إذا كان المكره هو البائع .

                                                                                                                                التالي السابق


                                                                                                                                الخدمات العلمية