الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر وصول كمشتكين القيصري شحنة إلى بغداذ والفتنة بينه وبين إيلغازي وسقمان وصدقة

في هذه السنة ، منتصف ربيع الأول ، ورد كمشتكين القيصري إلى بغداذ ، شحنة ، أرسله إليها السلطان بركيارق ، وقد ذكرنا في السنة المتقدمة رحيل بركيارق من [ ص: 483 ] أصبهان إلى همذان ، فلما وصلها أرسل إلى بغداذ كمشتكين شحنة فلما سمع إيلغازي ، وهو شحنة ببغداذ ، للسلطان محمد ، أرسل إلى أخيه سقمان بن أرتق ، صاحب حصن كيفا ، يستدعيه إليه ليعتضد به على منعه ، وسار إلى سيف الدولة صدقة بالحلة ، واجتمع به ، وسأله تجديد عهد في دفع من يقصده من جهة بركيارق ، فأجابه إلى ذلك وحلف له ، فعاد إيلغازي .

وورد سقمان في عساكر ، ونهب في طريقه تكريت ، وسبب تمكنه منها أنه أرسل جماعة من التركمان إلى تكريت ، ومعهم أحمال جبن ، وسمن وعسل ، فباعوا ما معهم ، وأظهروا أن سقمان قد عاد عن الانحدار ، فاطمأن أهل البلد ، ووثب التركمان ، تلك الليلة ، على الحراس فقتلوهم ، وفتحوا الأبواب ، وورد إليها سقمان ، ودخلها ونهبها ، ولما وصل إلى بغداذ نزل بالرملة .

وأما كمشتكين فوصل ، أول ربيع الأول ، إلى قرميسين ، وأرسل إلى من له هوى مع بركيارق ، وأعلمهم بقربه منهم ، فخرج إليه جماعة منهم ، فلقوه بالبندنيجين ، وأعلموه الأحوال ، وشاروا عليه بالمعاجلة ، فأسرع السير ، فوصل إلى بغداذ منتصف ربيع الأول ، ففارق إيلغازي داره ، واجتمع بأخيه سقمان ، وأصعدا من الرملة ، ونهبا بعض قرى دجيل ، فسار طائفة من عسكر كمشتكين وراءهما ، ثم عادوا عنهما ، وخطب للسلطان بركيارق ببغداذ فأرسل كمشتكين القيصري إلى سيف الدولة صدقة ، ومعه حاجب من ديوان الخليفة ، في طاعة بركيارق ، فلم يجب إلى ذلك ، وكشف القناع ببغداذ في مخالفته ، وسار من الحلة إلى جسر صرصر ، فقطعت خطبة بركيارق ببغداذ ، ولم يذكر على منابرها أحد من السلاطين ، واقتصر الخطباء على الدعاء للخليفة لا غير .

ولما وصل سيف الدولة إلى صرصر أرسل إلى إيلغازي وسقمان ، وكانا بحربى ، يعرفهما أنه قد أتى لنصرتهما ، فعادا ونهبها دجيلا ، ولم يبقيا على قرية كبيرة ولا صغيرة ، وأخذت الأموال ، وافتضت الأبكار ، ونهب العرب والأكراد الذين مع سيف الدولة بنهر ملك ، إلا أنهم لم ينقل عنهم مثل التركمان من أخذ النساء والفساد معهن ، ولكنهم استقصوا في أخذ الأموال بالضرب والإحراق ، وبطلت معايش الناس ، وغلت الأسعار ، فكان الخبز يساوي عشرة أرطال بقيراط ، فصار ثلاثة أرطال بقيراط ، وجميع الأشياء كذلك . [ ص: 484 ] فأرسل الخليفة إلى سيف الدولة في الإصلاح ، فلم تستقر قاعدة ، وعاد إيلغازي وسقمان ومعهما دبيس بن سيف الدولة صدقة من دجيل ، فخيموا بالرملة ، فقصدهم جماعة كثيرة من العامة ، فقاتلوهم ، فقتل من العامة أربعة نفر ، وأخذ منهم جماعة ، فأطلقوا بعد أن أخذت أسلحتهم وازداد الأمر شدة على الناس ، فأرسل الخليفة قاضي القضاة أبا الحسن بن الدامغاني ، وتاج الرؤساء بن الموصلايا إلى سيف الدولة يأمره بالكف عن الأمر الذي هو ملابسه ، ويعرفه ما الناس فيه ، ويعظم الأمر عليه ، فأظهر طاعة الخليفة إن أخرج القيصري من بغداذ ، وإلا فليس غير السيف ، وأرعد وأبرق .

فلما عاد الرسول استقر الأمر على إخراج القيصري من بغداذ ، ففارقها ثاني عشر ربيع الآخر ، وسار إلى النهروان ، وعاد سيف الدولة إلى بلده ، وأعيدت خطبة السلطان محمد ببغداذ ، وسار القيصري إلى واسط ، فخاف الناس منه ، وأرادوا الانحدار منها ليأمنوا ، فمنعهم القيصري ، وخطب لبركيارق بواسط ، ونهبوا كثيرا من سوادها .

فلما سمع صدقة ذلك سار إلى واسط ، فدخلها ، وعدل في أهلها ، وكف عسكره عن أذاهم ، ووصل إليه إيلغازي بواسط ، وفارقها القيصري ، ونزل متحصنا بدجلة ، فقيل لسيف الدولة : إن هناك مخاضة ، فسار إليها بعسكره وقد لبسوا السلاح ، فلما رآهم عسكر القيصري تفرقوا عنه ، وبقي في خواص أصحابه ، فطلب الأمان من سيف الدولة ، فأمنه ، فحضر عنده ، فأكرمه ، وقال له : قد سمنت ، قال : وتركتنا نسمن ؟ أخرجتنا من بغداذ ، ثم من واسط ، ونحن لا نعقل .

ثم بذل صدقة الأمان لجميع عسكر واسط ، ومن كان مع القيصري ، سوى رجلين ، فعادا إليه فأمنهما ، وعاد القيصري إلى بركيارق ، وأعيدت خطبة السلطان محمد بواسط ، وخطب بعده لسيف الدولة وإيلغازي ، واستناب كل واحد منهما فيها ولده ، وعادوا عنها في العشرين من جمادى الأولى ، وأمن أهل واسط مما كانوا يخافونه . فأما إيلغازي فإنه أصعد إلى بغداذ ، وأما سيف الدولة صدقة فإنه عاد إلى الحلة ، وأرسل ولده الأصغر منصورا مع إيلغازي إلى المستظهر بالله يسأله الرضا عنه ، فإنه كان قد سخط بسبب هذه الحادثة ، فوصل إلى بغداذ وخاطب في ذلك ، فأجيب إليه .

التالي السابق


الخدمات العلمية