الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ذكر الاختلاف الواقع بين المسترشد بالله والسلطان محمود

كان قد جرى بين يرنقش الزكوي ، شحنة بغداذ ، وبين نواب الخليفة المسترشد بالله نفرة تهدده الخليفة فيها ، فخافه على نفسه ، فسار عن بغداذ إلى السلطان محمود في رجب من هذه السنة ، وشكا إليه ، وحذره جانب الخليفة ، وأعلمه أنه قد قاد العساكر ، ولقي الحروب ، وقويت نفسه ، ومتى لم تعاجله بقصد العراق ودخول بغداذ ، ازداد قوة وجمعا ، ومنعه عنه ، وحينئذ يتعذر عليه ما هو الآن بيده .

فتوجه السلطان نحو العراق ، فأرسل إليه الخليفة يعرفه ما هي البلاد وأهلها عليه من الضعف والوهن ، بسبب دبيس ، وإفساد عسكره فيها ، وأن الغلاء قد اشتد بالناس لعدم الغلات والأقوات ، لهرب الأكرة عن بلادهم ، ويطلب منه أن يتأخر هذه الدفعة إلى أن ينصلح حال البلاد ثم يعود إليها ، فلا مانع له عنها ، وبذل له على ذلك مالا كثيرا .

فلما سمع السلطان هذه الرسالة قوي عنده ما قرره الزكوي ، وأبى أن يجيب إلى التأخر ، وصمم العزم وسار إليها مجدا . فلما بلغ الخليفة الخبر عبر هو وأهله وحرمه [ ص: 706 ] ومن عنده من أولاد الخلفاء إلى الجانب الغربي في ذي القعدة ، مظهرا للغضب والانتزاح عن بغداذ إن قصدها السلطان ، فلما خرج من داره بكى الناس جميعهم بكاء عظيما لم يشاهد مثله . فلما علم السلطان ذلك اشتد عليه ، وبلغ منه كل مبلغ ، فأرسل يستعطف الخليفة ، ويسأله العود إلى داره ، فأعاد الجواب أنه لا بد من عودك هذه الدفعة ، فإن الناس هلكى بشدة الغلاء ، وخراب البلاد ، وأنه لا يرى في دينه أن يزداد ما بهم ، وهو يشاهدهم ، فإن عاد السلطان ، وإلا رحل هو عن العراق لئلا يشاهد ما يلقى الناس بمجيء العساكر .

فغضب السلطان لقوله ، ورحل نحو بغداذ ، وأقام الخليفة بالجانب الغربي ، فلما حضر عيد الأضحى خطب الناس ، وصلى بهم ، فبكى الناس لخطبته ، وأرسل عفيفا الخادم ، وهو من خواصه ، في عسكر إلى واسط ليمنع عنها نواب السلطان ، فأرسل السلطان إليه عماد الدين زنكي بن آقسنقر ، وكان له حينئذ البصرة ، وقد فارق البرسقي ، واتصل بالسلطان ، فأقطعه البصرة .

فلما وصل عفيف إلى واسط سار إليه عماد الدين ، فنزل بالجانب الشرقي ، وكان عفيف بالجانب الغربي ، فأرسل إليه عماد الدين يحذره القتال ، ويأمره بالانتزاح عنهم ، فأبى ولم يفعل ، فعبر إليه عماد الدين ، واقتتلوا ، فانهزم عسكر عفيف ، وقتل منهم مقتلة عظيمة ، وأسر مثلهم ، وتغافل عن عفيف حتى نجا لمودة كانت بينهما .

ثم إن الخليفة جمع السفن جميعها إليه ، وسد أبواب دار الخلافة سوى باب النوبي ، وأمر حاجب الباب ابن الصاحب بالمقام فيه لحفظ الدار ، ولم يبق من حواشي الخليفة بالجانب الشرقي سواه .

ووصل السلطان إلى بغداذ في العشرين من ذي الحجة ، ونزل بباب الشماسية ، ودخل بعض عسكره إلى بغداذ ونزلوا في دور الناس ، فشكا الناس ذلك إلى السلطان ، فأمر بإخراجهم ، وبقي فيها من له دار ، وبقي السلطان يراسل الخليفة بالعود ، ويطلب الصلح ، وهو يمتنع .

وكان يجري بين العسكرين مناوشة ، والعامة من الجانب الغربي يسبون السلطان أفحش سب . ثم إن جماعة من عسكر السلطان دخلوا دار الخلافة ، ونهبوا التاج ، [ ص: 707 ] وحجر الخليفة ، أول المحرم سنة إحدى وعشرين وخمسمائة ، وضج أهل بغداذ من ذلك ، فاجتمعوا ونادوا الغزاة ، فأقبلوا من كل ناحية ، ولما رآهم الخليفة خرج من السرادق والشمسة على رأسه ، والوزير بين يديه ، وأمر بضرب الكوسات والبوقات ، ونادى بأعلى صوته : يا آل هاشم ! وأمر بتقديم السفن ، ونصب الجسر وعبر الناس دفعة واحدة ، وكان له في الدار ألف رجل مختفين في السراديب ، فظهروا ، وعسكر السلطان مشتغلون بالنهب ، فأسر منهم جماعة من الأمراء ، ونهب العامة دار وزير السلطان ، ودور جماعة من الأمراء ، ودار عزيز الدين المستوفي ، ودار الحكيم أوحد الزمان الطبيب ، وقتل منهم خلق كثير في الدروب .

ثم عبر الخليفة إلى الجانب الشرقي ، ومعه ثلاثون ألف مقاتل من أهل بغداذ والسواد ، وأمر بحفر الخنادق ، فحفرت بالليل ، وحفظوا بغداذ من عسكر السلطان ، ووقع الغلاء عند العسكر ، واشتد الأمر عليهم ، وكان القتال كل يوم عليهم عند أبواب البلد وعلى شاطئ دجلة ، وعزم عسكر الخليفة على أن يكبسوا عسكر السلطان ، فغدر بهم الأمير أبو الهيجاء الكردي ، صاحب إربل ، وخرج كأنه يريد القتال ، فالتحق هو وعسكره بالسلطان .

وكان السلطان قد أرسل إلى عماد الدين بواسط يأمره أن يحضر هو بنفسه ، ومعه المقاتلة في السفن ، وعلى الدواب في البر ، فجمع كل سفينة في البصرة إلى بغداذ ، وشحنها بالرجال المقاتلة ، وأكثر من السلاح ، وأصعد ، فلما قارب بغداذ أمر كل من معه في السفن وفي البر بلبس السلاح ، وإظهار ما عندهم من الجلد والنهضة ، فسارت السفن في الماء ، والعسكر في البر على شاطئ دجلة قد انتشروا وملأوا الأرض برا وبحرا ، فرأى الناس منظرا عجيبا ، كبر في أعينهم ، وملأ صدورهم ، وركب السلطان والعسكر إلى لقائهم ، فنظروا إلى ما لم يروا مثله ، وعظم عماد الدين في أعينهم ، وعزم السلطان على قتال بغداذ حينئذ ، والجد في ذلك في البر والماء . فلما رأى الإمام المسترشد بالله الأمر على هذه الصورة ، وخروج الأمير أبي الهيجاء من عنده ، أجاب إلى الصلح ، وترددت الرسل بينهما ، فاصطلحا ، واعتذر السلطان مما جرى ، وكان حليما يسمع سبه بأذنه فلا يعاقب عليه ، وعفا عن أهل بغداذ جميعهم .

وكان أعداء الخليفة يشيرون على السلطان بإحراق بغداذ ، فلم يفعل ، وقال : لا تساوي الدنيا فعل مثل هذا . وأقام ببغداذ إلى رابع شهر ربيع الآخر سنة إحدى وعشرين وخمسمائة ، وحمل الخليفة من المال إليه كما استقرت القاعدة عليه ، وأهدى له [ ص: 708 ] سلاحا وخيلا وغير ذلك ، فمرض السلطان ببغداذ ، فأشار عليه الأطباء بمفارقتها ، فرحل إلى همذان ، فلما وصلها عوفي .

التالي السابق


الخدمات العلمية