الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء

( ( وشرط من أكرم بالنبوة حرية ذكورة كقوة ) )



( ( وشرط ) ) مبتدأ " من " أي : كل إنسان " أكرم " بضم الهمزة مبنيا لما لم يسم فاعله ، أي : أكرمه الله تعالى " بالنبوة " بضم النون والباء الموحدة ، وتشديد الواو ، ويجوز فيه تحقيق الهمزة وتخفيفه ، يقال : نبأ وأنبأ ، فإن قيل : روى النسائي أن رجلا قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - يا نبيء الله ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم : " لا تنبر باسمي فإنما أنا نبي " ، فالجواب ما حكاه الجوهري أنه يقال : نبأت على القوم إذا طلعت عليهم ، ونبأت من أرض إلى أرض كذا إذا خرجت إلى هذه ، وهذا المعنى أراد الأعرابي بقوله : يا نبيء الله ؛ لأنه خرج من مكة إلى المدينة ، فأنكر عليه الهمز لأنه ليس من لغة قريش . والحاصل : أن النبي إما مشتق من النبإ أي الخبر ؛ لأنه ينبئ عن الله تعالى ، أي : يخبر ، قال سيبويه : ليس أحد من العرب إلا ويقول : تنبأ مسيلمة بالهمز ، غير أنهم تركوا الهمز في النبي كما تركوه في الذرية والبرية والخبية ، إلا أهل مكة فإنهم يهمزون هذه الأحرف الثلاثة ، ولا يهمزون غيرها ويخالفون العرب في ذلك .

وإما مشتق من النبوة وهي الشيء المرتفع ؛ لأن النبي مرتفع الرتبة على سائر الخلق ، قال في القاموس : والنبيء المخبر عن الله ، وترك الهمز المختار ، والجمع أنبياء ونبآء وأنباء والنبيئون ، والاسم النبوءة . ذكره في باب الهمزة ، وقال في باب المعتل : والنباوة ما ارتفع من الأرض كالنبوة والنبي . انتهى .

" حرية " خبر المبتدأ الذي هو ( شرط من أكرم ) . . . إلخ ، وذلك لأن الرق وصف نقص لا يليق بمقام النبوة ، والنبي يكون داعيا للناس أناء الليل وأطراف النهار ، والرقيق لا يتيسر له ذلك ، وأيضا الرقية وصف نقص يأنف الناس ويستنكفون من اتباع من اتصف بها وأن يكون إماما لهم وقدوة ، وهي إثر الكفر ، والأنبياء منزهون عن ذلك ، وشرط من أكرمه الله بالنبوة أيضا " ذكورة " أي : أن يتصف بالذكورية لقوله تعالى ( وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم ) فأثبت الرسالة للرجال الموحى [ ص: 266 ] إليهم وأشعر بنفي ذلك عن غيرهم ، فلا تكون أنثى نبية خلافا لأهل التوراة الزاعمين بنبوة مريم بنت عمران أخت موسى وهارون عليهما السلام ، وقد خالف في اشتراط الذكورة أبو الحسن الأشعري ثم القرطبي ، وتبعهما على ذلك أناس من العلماء ، والحق اعتبار الذكورية لأن الرسالة تقتضي الاشتهار بالدعوة ، والأنوثة تقتضي التستر وتنافي الاشتهار لما بين الاشتهار والاستتار من التمانع ، وقد حكى العلامة ابن الملقن في شرحه على عمدة الأحكام خلافا في نبوة مريم وآسية وسارة وهاجر وأم موسى عليه السلام ، واسمها يخابذ بنت لاوى بن يعقوب كما قال شيخ السنة البغوي ، والحافظ ابن الجوزي في تبصرته .

قال الحافظ برهان الدين الناجي : قيد هذا الاسم ( يوخابذ ) على شيخنا الحافظ بن ناصر الدين حال قراءة التبصرة عليه بمثناة تحتية مضمومة فواو ساكنة فخاء معجمة مفتوحة فألف مقصورة فباء موحدة مفتوحة فذال معجمة ، وهو غير مصروف للعجمة والتأنيث أي مع العلمية . قلت : في كتب أهل الكتاب ورأيته في التوراة يوكابد بكاف بدل الخاء ، وبدال مهملة بدل المعجمة والنطق بالكاف مفخما ، ومعناه بالعربية جليلة ، ورأيت الحافظ جلال الدين السيوطي ضبطه بحاء مهملة بدل الخاء المعجمة ، وبنون بدل الباء الموحدة كما هو في تاريخ الأنبياء له .

وقوله ( ( كقوة ) ) أي : كما يعتبر فيمن أكرمه الله تعالى بالنبوة أن يكون قويا بأعباء ما حمل من ثقل النبوة ، والقوة الطاقة ، والجمع قوى بالضم وبالكسر ، قال في القاموس : القوة بالضم ضد الضعف ، يقال : قوي كرضي فهو قوي ، والقوى بالضم العقل ، وطاقات الحبل . ذا عقل صحيح ، وفهم رجيح ، وعلم بالأمور الدينية حسن الخلق والخلق ، ليسهل عليه تحمل الخلق في مخالطاتهم وتعليمهم لأمور الديانة ، فإن الأنبياء منزهة عن جميع الرذائل من البخل والجبن واللهو واللغو وسائر الأخلاق الذميمة ، كما أنهم مبرءون من لؤم النسب ، وشره القلب ، وحرص النفس على الدنيا ، ولهذا لم يبعث الله نبيا إلا في أشرف منسب أمته ، فلم يبعث نبيا من ذي نسب مبذول ، كما لم يبعث نبيا عبدا ولا لئيما ، ولا امرأة لعلو مرتبة الذكورة على الأنوثة مع طلب عدم الاشتهار مع النساء المطلوب للدعوة ، ولكون النفوس مائلة في ذواتهن بحسب الطبع [ ص: 267 ] فيغفلون عن مقالهن .

والحاصل اختصاص النبوة بأشرف أفراد النوع الإنساني من كمال العقل والذكاء والفطنة وقوة الرأي ولو في الصبا كعيسى ويحيى عليهما السلام ، والسلامة من كل ما نفر عن الاتباع كدناءة الآباء وعهر الأمهات والغلظة والعيوب المنفرة للطباع كالبرص والجذام ، والأمور المخلة بالمروءة كأكل على الطريق ، والحرف الدنية كالحجامة ، وكل ما يخل بحكمة البعثة ونحو ذلك ، وبالله التوفيق .

ولما ذكر ما أشعر بانفراد كمال النوع الإنساني بالنبوة واختصاص الذكور الأحرار المنزهين عن النقائص بها خشي أن يتوهم متوهم بأن ذلك يدرك بالرياضة والتهذيب والجد والاجتهاد والتأديب ، فنفى ذلك بقوله :

التالي السابق


الخدمات العلمية