الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( تنبيهات )

( الأول ) قال الجوهري :

الجان أبو الجن . قال الإمام أبو الوفا بن عقيل : إنما يسمى الجن جنا لاجتنانهم ، واستتارهم عن العيون ، قال : والشياطين عصاة الجن ، وهم من ولد إبليس ، والمردة أعتاهم وأغواهم .

وقال ابن عبد البر : الجن عند أهل الكلام والعلم باللسان على مراتب ، فإذا ذكروا الجن خالصا قالوا : جني ، فإن أرادوا أنه ممن يسكن مع الناس قالوا : عامر ، والجمع عمار ، فإن كان ممن يعرض للصبيان قالوا : أرواح ، فإن خبث وتعرض قالوا شيطان ، فإن زاد على ذلك وقوي أمره قالوا : عفريت .

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية روح الله روحه : لم يخالف أحد من طوائف المسلمين في وجود الجن ، وكذا جمهور الكفار ، لأن وجودهم تواترت به أخبار الأنبياء تواترا معلوما بالاضطرار يعرفه الخاصة والعامة ، وقال : ولم ينكر الجن إلا شرذمة قليلة من جهال الفلاسفة ونحوهم .

وقال القاضي أبو بكر الباقلاني : كثير يقر بوجودهم ، ويزعم أنهم لا يرون لرقة أجسامهم ونفوذ الشعاع فيها ، ومنهم من زعم أنهم لا يرون لأنهم لا ألوان لهم ، وقد ذكر إسحاق بن بشر في المبتدأ عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما : خلق الجن قبل آدم بألفي سنة ، وقال إسحاق عن عكرمة عن ابن عباس - رضي الله عنهما : لما خلق الله تعالى سوما أبا الجن ؟ وهو الذي خلق من مارج من نار قال له تعالى : تمن ، قال : أتمنى أن نرى ولا نرى ، وأن نغيب في الثرى ، ويصير كهلنا شابا . فأعطي ذلك ، فهم يرون ولا يرون ، وإذا ماتوا غيبوا في الثرى ، ولا يموت كهلهم حتى يعود شابا يعني مثل الصبي يرد إلى أرذل العمر .

وأخرج [ ص: 221 ] مسلم عن أم المؤمنين عائشة الصديقة - رضي الله عنها - قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " خلقت الملائكة من نور ، وخلق الجان من مارج من نار ، وخلق آدم مما وصف لكم " .

وأخرج الفريابي ، وعبد بن حميد عن مجاهد في قوله : ( وخلق الجان من مارج من نار ) قال : اللهب الأصفر والأخضر الذي يعلو النار إذا أوقدت .

وقال ابن عباس - رضي الله عنهما : خلقت الجن الذين ذكروا في القرآن من مارج من نار ، وأخرج ابن أبي حاتم عن عمرو بن دينار قال : خلق الجان والشياطين من نار الشمس . انتهى .

وقال أبو الوفا بن عقيل في الفنون : سأل سائل عن الجن ، فقال أخبر الله عنهم أنهم من نار ، وأخبر أن الشهب تضرهم وتحرقهم ، فكيف تحرق النار النار ؟ قال : والجواب أن الله تعالى أضاف الشياطين والجان إلى النار حسب ما أضاف الإنسان إلى التراب والطين والفخار ، والمراد به في حق الإنسان أن أصله الطين ، وليس الآدمي طينا حقيقة ولكنه كان طينا ، كذلك الجان كان نارا في الأصل .

قال القاضي عبد الجبار المعتزلي : الدليل على أن أصل الجن النار السمع دون العقل .

وقال الإمام القاضي أبو يعلى بن الفراء : الجن أجسام مؤلفة ، وأشخاص ممثلة ، ويجوز أن تكون رقيقة وأن تكون كثيفة ، خلافا للمعتزلة في قولهم : إنهم أجسام رقيقة ، ولرقتها لا تراها . قال القاضي أبو يعلى : ولا قدرة للشياطين على تغيير خلقهم والانتقال في الصور ، وإنما يجوز أن يعلمهم الله كلمات ضربا من ضروب الأفعال إذا فعلها وتكلم بها نقله الله من صورة إلى صورة ، فيقال إنه قادر على التصوير والتخييل على معنى أنه قادر على قول إذا قاله وفعله نقله الله عن صورة إلى أخرى لجري العادة ، وأما أن يصور نفسه في ذلك فذلك محال ؛ لأن انتقالها عن صورة إلى صورة إنما يكون بنقض البنية وتفريق الأجزاء ، وإذا انتقلت بطلت الحياة واستحال وقوع الفعل من الجملة ، وكيف تنقل نفسها ؟ قال : والقول في تشكيل الملائكة مثل ذلك ، والذي روي أن إبليس تصور في صورة سراقة ، وأن جبريل تمثل في صورة دحية محمول على ما ذكرنا ، وهو أنه أقدره الله على قول قاله فنقله الله عن صورة إلى صورة أخرى ، قال القاضي : الجن يأكلون ويشربون ويتناكحون كما يفعل الإنس .

[ ص: 222 ] وظاهر المعلومات أن جميع الجن كذلك ، وهو رأي قوم ، ثم اختلفوا فزعم بعضهم أن أكلهم وشربهم تشمم استرواح لا مضغ وبلع ، وهذا لا دليل عليه ، وقال الأكثرون : إنهم يأكلون بمضغ وبلع ، وزعم قوم أن جميع الجن لا يأكلون ولا يشربون . وهذا ساقط ، وقيل إن صنفا يأكلون ويشربون ، وصنفا لا يأكلون ولا يشربون ،وسئل وهب بن منبه عن الجن هل يأكلون ويشربون ؟ وهل يموتون ويتناكحون ؟ فقال : هم أجناس ، فأما خالص الجن فهم ريح لا يأكلون ولا يشربون ولا يموتون ولا يتوالدون ، ومنهم أجناس يأكلون ويشربون ويتوالدون ويتناكحون ويموتون ، قال : وهي هذه التي منها السعالي والغول وأشباه ذلك . أخرجه ابن جرير .

وحديث علقمة عن أبي مسعود عند الإمام أحمد ومسلم والترمذي : لما أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - داع من الجن ، فذهب معه فقرأ عليهم القرآن ، وأنه - صلى الله عليه وسلم - انطلق بأصحابه فأراهم آثارهم وآثار نيرانهم يدل على أنهم كانوا كالإنس في الجملة ، وفيه أنهم سألوه الزاد ، وكانوا من جن الجزيرة ، فقال لهم - صلى الله عليه وسلم :

لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه
- ولفظ الترمذي : لم يذكر اسم الله عليه - يقع في أيديكم أوفر ما كان لحما ، وكل بعرة علف لدوابكم .

قال النبي - صلى الله عليه وسلم : " لا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم من الجن " وقد جمع بعض العلماء بين رواية الترمذي لم يذكر اسم الله عليه ، وبين رواية الإمام أحمد ومسلم بأن ما في المسند وصحيح مسلم في حق المسلم من الجن ، وما في رواية الترمذي في حق غير المؤمنين منهم ، وصححه السهيلي ، وقال : هذا يعضد الأحاديث .

وقد استدلوا على مناكحتهم بقوله تعالى ( أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو ) وبقوله تعالى : ( لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان ) وهذا يدل على أنه يتأتى منهم الجماع ، وفي الحديث : " إن الجن يتوالدون كما يتوالد بنو آدم وهم أكثر عددا " . رواه ابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ في العظمة عن قتادة .

التالي السابق


الخدمات العلمية