الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء

( ( وبعدهم فالتابعون أحرى بالفضل ثم تابعوهم طرا ) )



( ( وبعدهم ) ) أي بعد الصحابة المخصوصين بالفضل والعدالة العامة والإصابة ، ( ( فالتابعون ) ) لهم بإحسان ( ( أحرى ) ) أي أحق وأجدر ( ( بالفضل ) ) والإتقان والتقديم على غيرهم من سائر أهل الإيمان ، وتعريف التابعي هو كل من صحب الصحابي ، ومطلقه مخصوص بالتابعي بإحسان ، ويقال للواحد تابع وتابعي ، ولا بد في التابعي من زيادة على ما تعتبر به الصحبة في الصحابي كما تقدم ، لأن الصحبة خصوصية كما بيناه ، ولهم طبقات بالنسبة إلى من اجتمع بعشرة أو ثلاثة من الصحابة ، وبالعلم والزهد وغير ذلك . وقد اختلف في أفضل التابعين ، قال سيدنا الإمام أحمد وغيره من أهل العلم : أفضل التابعين سعيد بن المسيب ، وقال قوم : أفضل التابعين أويس بن عامر ، ويقال : عمرو وكنيته أبو عمرو وهو القرني ، واستدلوا له بحديث : " خير التابعين أويس " . رواه الحاكم عن علي بن أبي طالب عن النبي - صلى [ ص: 390 ] الله عليه وسلم - وفي صحيح مسلم : " إن خير التابعين رجل يقال له : أويس ، وله والدة ، وكان به بياض فمروه ، فليستغفر لكم " . قال النووي : هو أويس بن عامر . وكذا رواه مسلم ، وهو المشهور ، وقال ابن ماكولا : ويقال : أويس بن عمرو ، وهو القرني - بفتح القاف والراء - وهو بطن من مراد ، وهو قرن بن رمدان ، وغلطوا من نسبه إلى قرن المنازل الجبل المعروف ميقات أهل نجد في الإحرام ، وفيه طلب الدعاء والاستغفار من أهل الصلاح ، وإن كان الطالب أفضل منهم ، فإن قيل : كيف استجاز الإمام أحمد ومن نحا نحوه تفضيل ابن المسيب على سائر التابعين مع وجود النص الصريح بالنقل الصحيح في تفضيل أويس القرني ؟ فالجواب أن مراد سيدنا الإمام أحمد وأضرابه أفضلية سعيد في العلوم الشرعية كالتفسير والحديث والفقه ونفع الأمة بذلك ، وبما بلغه عن الصحابة الكرام عن النبي - عليه أفضل الصلاة والسلام - فإنه الإمام الحافظ الثقة المأمون حتى قيل فيه : أعلم أمة محمد بدين محمد بعد محمد سعيد بن المسيب - رحمه الله ورضي الله عنه - ، والدليل على أفضلية التابعين قول النبي - صلى الله عليه وسلم - : " خير الناس قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم - قال عمران : فلا أدري أذكر بعد قرنه قرنين أو ثلاثة - ثم إن بعدهم قوما يشهدون ولا يستشهدون ، ويخونون ولا يؤتمنون ، وينذرون ولا يوفون ويظهر فيهم السمن " . زاد في رواية ويحلفون ولا يستحلفون . رواه البخاري ومسلم والترمذي من حديث عمران بن حصين - رضي الله عنه - ، ورواه أبو داود ولفظه : " خير أمتي القرن الذي بعثت فيهم ، ثم الذين يلونهم ، والله أعلم أذكر الثالث أم لا . ورواه مسلم من حديث أبي هريرة وفيه : والله أعلم أذكر الثالث أم لا . وقد قال - صلى الله عليه وسلم - : " لا تمس النار مسلما رآني أو رأى من رآني " . رواه الترمذي من حديث جابر ، قال طلحة : فقد رأيت جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - ، وقال موسى : قد رأيت طلحة ، وقال يحيى : وقال لي موسى : وقد رأيتني ونحن نرجو الله تعالى . قال الإمام المحقق ابن القيم في أول كتابه إعلام الموقعين ألقى الصحابة الكرام إلى التابعين ما تلقوه من مشكاة النبوة خالصا صافيا ، وكان سندهم عن نبيهم - صلى الله عليه وسلم - عن جبريل عن رب [ ص: 391 ] العالمين سندا صحيحا عاليا ، وقالوا : هذا عهد نبينا إلينا ، وقد عهدناه إليكم ، وهذه وصية ربنا وفرضه علينا ، وهي وصيته وفرضه عليكم ، فجرى التابعون لهم بإحسان على منهاجهم ، واقتفوا آثار صراطهم المستقيم ، ولهذا قال ( ( ثم ) ) الأفضل بعد التابعين ( ( تابعوهم ) ) أي أتباع التابعين ، لما تقدم من صحيح الأخبار وصريح الآثار ( ( طرا ) ) أي جميعا ، وهو منصوب على المصدر أو الحال ، لأنهم سلكوا مسلكهم الرشيد ( وهدوا إلى الطيب من القول وهدوا إلى صراط الحميد ) وكانوا بالنسبة إلى من قبلهم كما قال أصدق القائلين : ( ثلة من الأولين وقليل من الآخرين ) ، ثم جاء الأئمة من القرن الرابع المفضل في إحدى الروايتين ، كما ثبت في الصحيح من حديث أبي سعيد ، وابن مسعود ، وأبي هريرة ، وعائشة ، وعمران بن حصين - رضي الله عنهم - أجمعين من قوله - صلى الله عليه وسلم - : " خير الناس قرني " الحديث ، والقرن أهل زمان واحد متقارب اشتركوا في أمر من الأمور المقصودة ، والأصح أنه لا ينضبط بمدة ، فقرنه - صلى الله عليه وسلم - هم أصحابه ، وكانت مدتهم من المبعث إلى آخر من مات من أصحابه ، وهو أبو الطفيل مائة وعشرين سنة ، وقرن التابعين من نحو مائة إلى سبعين سنة ، وقرن أتباع التابعين من ثم إلى حدود العشرين ومائتين ، وفي هذا الوقت ظهرت البدع ظهورا فاشيا ، وأطلقت المعتزلة ألسنتها ، وأظهرت الجهمية نحلتها ، ورفعت الفلاسفة رءوسها ، وامتحنت أئمة الدين وعلماء المسلمين ، ليقولوا بخلق القرآن ، وكان المقصود الأعظم منهم إمامنا الإمام أحمد ، فقام بأمر السنة أتم قيام ، وعاضده عليها أئمة أعلام ، وحفاظ للدين فخام ، شكر الله سعيهم ، وثبتنا على نهجهم ، آمين ، وظهر مصداق قوله - صلى الله عليه وسلم - كما في رواية : ثم يفشو الكذب ، قال في النهاية : خير الناس قرني - يعني الصحابة - ، ثم التابعين ، والقرن أهل كل زمان ، وهو مقدار التوسط في أعمار كل زمان ، مأخوذ من الاقتران ، فكأنه المقدار الذي يقترن فيه أهل ذلك الزمان في أعمارهم وأحوالهم ، وقيل القرن أربعون سنة ، وقيل مائة ، وقيل هو مطلق من الزمان ، وهو مصدر قرن يقرن قرنا . قال الحافظ جلال الدين السيوطي في الدر المنثور : القرن أهل كل زمان ، وهو المقدار الذي يقترن فيه أهل ذلك الزمان في أعمارهم وأحوالهم

التالي السابق


الخدمات العلمية