الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأول من يدخل الجنة من هذه الأمة من بعد نبيها - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر الصديق كما رواه أبو داود في سننه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه . وروى الإمام أحمد في المسند والترمذي وابن ماجه ، والحاكم من حديث معاوية بن حيدة - رضي الله عنه - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : " إنكم تتمون - وفي لفظ - إنكم توفون - سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله تعالى " وأخرج الترمذي من حديث أبي أمامة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الله فضلني على الأنبياء - أو قال أمتي على الأمم - وأحل لنا الغنائم " ، وقال : حديث حسن صحيح .

وفي صحيح مسلم : عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - رفعه : " يجيء يوم القيامة ناس من المسلمين بذنوب أمثال الجبال يغفرها الله ويضعها على اليهود والنصارى " وقد روى معنى هذا الحديث عن أبي موسى أيضا الطبراني والحاكم وصححه وكذا ابن ماجه والطبراني . وروي أيضا [ ص: 274 ] من حديث أنس - رضي الله عنه - أخرجه ابن ماجه والنسائي . وأخرجه مسلم عن أبي موسى من وجه آخر بلفظ : " إذا كان يوم القيامة دفع الله إلى كل مسلم يهوديا أو نصرانيا فيقول : هذا فداؤك من النار " قال العلامة القرطبي : قال علماؤنا : هذه الأحاديث ليست على عمومها ، إنما هي في أناس مذنبين تفضل الله عليهم برحمته ، فأعطى كل واحد منهم فكاكا من النار . وقال : معنى قوله : يضعها على اليهود والنصارى ، أنه يضاعف عليهم عذاب كفرهم وذنوبهم حتى يكون عذابهم بقدر جرمهم وجرم مذنبي المسلمين لو أخذوا بذلك ؛ لأنه تعالى لا يأخذ أحدا بذنب أحد كما قال تعالى : ( ولا تزر وازرة وزر أخرى ) وله تعالى أن يضاعف على من يشاء العذاب ، ويخفف عن من يشاء بحكم إرادته ومشيئته .

ويقال في الرواية الأخرى ، وهي قوله : لا يموت رجل مسلم إلا أدخل الله مكانه يهوديا أو نصرانيا النار ، معناه : أن المسلم المذنب لما كان يستحق مكانا في النار بسبب ذنوبه ، وعفا الله عنه بمنه ورحمته بقي مكانه خاليا منه أضاف ذلك المكان إلى يهودي أو نصراني ليعذب فيه زيادة على تعذيب مكانه الذي يستحقه بحسب كفره .

وقد جاءت أحاديث دالة على أن لكل مسلم من هذه الأمة مذنبا كان أو لا منزلين منزلا في الجنة ، ومنزلا في النار ، وكذا الكافر ، وذلك معنى قوله تعالى : ( أولئك هم الوارثون ) أي يرث المؤمنون منازل الكفار من الجنة ، والكفار منازل المؤمنين في النار ، إلا أن هذه الوراثة تختلف ، فمنهم من يرث بلا حساب ، ومنهم من يرث بحساب ومناقشة .

قال الإمام البيهقي : يحتمل أن يكون الفداء في قوم كانت ذنوبهم كفرت عنهم في حياتهم ، أو في من أخرج من النار ، يقال لهم ذلك بعد الخروج . وقال بعضهم : بل يحتمل أن يكون الفداء مجازا عن رؤية المنزلة التي تقدمت الإشارة إليها . ورجحه النووي وغيره . وقيل : المراد بالذنوب التي توضع على الكفار ذنوب كان الكفار سببا فيها بأن سنوها ، فلما غفرت سيئات المؤمنين بقيت سيئات الذي سن تلك البدعة السيئة باقية على أربابها الكفرة ؛ لأن الكفار لا يغفر لهم ، فيكون الوضع كناية عن إبقاء الذنب الذي لحق الكافر بما سنه من عمله السيئ الذي عمل به المؤمن . وقواه الحافظ ابن حجر . وبالله التوفيق .

[ ص: 275 ] وقد روي أن لكل واحد من مؤمني هذه الأمة نورين كالأنبياء السالفة ، روى أبو نعيم وابن الجوزي في ( الوفاء ) عن كعب الأحبار - رحمه الله تعالى - أنه سمع رجلا يقول : رأيت في المنام كأن الناس جمعوا للحساب فدعي الأنبياء ، فجاء مع كل نبي أمته ، ورأى لكل نبي نورين ، ولكل ممن اتبعه نور يمشي به ، فدعي محمد - صلى الله عليه وسلم - فإذا لكل شعرة في رأسه ووجهه نور ، ولكل من اتبعه نوران يمشي بهما - فقال كعب - وهو لا يشعر أنها رؤيا - من حدثك هذا ؟ قال : أنا ، والله الذي لا إله إلا هو لقد رأيت هذا في المنام ، فقال : بالله الذي لا إله إلا هو لقد رأيت هذا في منامك ؟ قال : نعم ، قال : والذي نفس كعب بيده إنها لصفة محمد - صلى الله عليه وسلم - وأمته وصفة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأممها في كتاب الله ، كأنما قرأه من التوراة .

وروى الحافظ أبو نعيم والحافظ ابن الجوزي في الوفاء عن كعب الأحبار أيضا أنه رأى حبرا من أحبار اليهود يبكي ، فقال له : ما يبكيك ؟ قال : ذكرت بعض الأمور ، فقال كعب : أنشدك الله لئن أخبرتك ما أبكاك لتصدقني ؟ قال : نعم ، قال : أنشدك الله هل تجد في كتاب الله المنزل أن موسى نظر في التوراة فقال : يا رب إني أجد خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف ، وينهون عن المنكر ، ويؤمنون بالكتاب الأول والكتاب الآخر ، ويقاتلون أهل الضلالة حتى يقاتلوا الأعور الدجال ، قال : فقال موسى رب اجعلهم أمتي ، قال : هم أمة أحمد يا موسى ، قال الحبر : نعم - الحديث ، وفيه : قال موسى عليه السلام : ليتني من أمته أو من أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام ، فأوحى الله تعالى إليه : ( يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين ) الحديث .

ورويا من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : إن موسى عليه السلام لما نزلت عليه التوراة وقرأها فوجد فيها ذكر هذه الأمة قال : يا رب إني أجد في الألواح أمة هم الآخرون ، والسابقون المشفوع لهم فاجعلها أمتي ، قال : تلك أمة أحمد ، الحديث .

وفيه قال : يا رب فاجعلني من أمة أحمد فأعطي عند ذلك خصلتين ، فقال : ( يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين ) قال رضيت يا رب
.

وذكره الإمام المحقق ابن القيم في كتابه جلاء الأفهام .

[ ص: 276 ] وذكر الحافظ ابن الجوزي في تبصرته في قوله تعالى : ( كنتم خير أمة أخرجت للناس ) في كنتم قولان ، أحدهما : كان وصفكم في البشارة قبل وجودكم ، قاله الحسن ، الثاني : كنتم في سابق علم الله تعالى وحكمه ، أو في اللوح المحفوظ .

قال ابن الأنباري : أي : ما زلتم ، وقيل : إن معنى كنتم أي أنتم ، مثل قوله تعالى ( وكان الله غفورا رحيما ) قال ابن قتيبة : قد يأتي الفعل على بنية الماضي ، وهو ذاهب أو مستقبل كقوله : كنتم ، ومعناه أنتم ، ومثله ( وإذ قال الله ) أي يقول الله ، ومثله ( أتى أمر الله ) ونظائره . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية