الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
( قول صاحبه إمام الشافعية في وقته أبي إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني ) : في رسالته في السنة التي رواها أبو طاهر السلفي عنه بإسناده ونحن نسوقها كلها بلفظها . بسم الله الرحمن الرحيم . عصمنا الله وإياكم بالتقوى ووفقنا وإياكم لموافقة الهدى ، أما بعد فإنك سألتني أن أوضح لك من السنة أمرا تبصر نفسك على التمسك " به " وتدرأ به عنك شبه الأقاويل وزيغ محدثات الضالين فقد شرحت " لك " منهاجا واضحا لم آل نفسي وإياك فيه نصحا ، بدأت فيه بحمد الله ذي الرشد والتسديد ، الحمد لله أحق ما بدأ ، وأولى من شكر ، وعليه أثني ، الواحد الصمد الذي ليس له صاحبة ولا ولد جل عن المثل فلا شبيه له ولا عديل السميع البصير العليم الخبير المنيع الرفيع ، عال على عرشه وهو دان بعلمه من خلقه أحاط علمه [ ص: 167 ] بالأمور وأنفذ في خلقه سابق المقدور ، ( و ) يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، فالخلق عاملون بسابق علمه ونافذون لما خلقهم له من خير وشر ، لا يملكون لأنفسهم من الطاعة ولا يجدون إلى صرف المعصية عنها دفعا ، خلق الخلق بمشيئته من غير حاجة كانت به ، فخلق الملائكة جميعا لطاعته وجبلهم على عبادته ، فمنهم ملائكة بقدرته للعرش حاملون ، وطائفة منهم حول عرشه يسبحون ، وآخرون بحمده يقدسون ، واصطفى منهم رسلا إلى رسله ، وبعض مدبرون لأمره . ثم خلق آدم بيده وأسكنه جنته ، وقبل ذلك للأرض خلقه ونهاه عن شجرة قد نفذ قضاؤه عليه بأكلها ثم ابتلاه بما نهاه عنه منها ثم سلط عليه عدوه فأغواه عليها وجعل أكله " إلى الهبوط " إلى الأرض سببا فما وجد إلى ترك أكلها سبيلا ولا عنه لها مذهبا . ثم خلق للجنة من ذريته أهلا فهم بأعمالهم ؟ بمشيئته عاملون وبقدرته وبإرادته ينفذون . وخلق من ذريته للنار أهلا فخلق لهم أعينا لا يبصرون بها وآذانا لا يسمعون بها وقلوبا لا يفقهون بها فهم بذلك عن الهدى محجوبون وهم بأعمال أهل النار بسابق قدره يعملون ، والإيمان قول وعمل وهما شيئان ونظامان وقرينان لا يفرق بينهما ; لا إيمان إلا بعمل ولا عمل إلا بإيمان .

والمؤمنون في الإيمان يتفاضلون وبصالح الأعمال هم متزايدون ولا يخرجون من الإيمان بالذنوب ولا يكفرون بركوب كبيرة ولا عصيان ولا يوجب لمحسنهم بغير ما أوجب له النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، ولا يشهد على مسيئهم بالنار .

[ ص: 168 ] والقرآن كلام الله عز وجل ومن الله ، وليس بمخلوق فيبيد وقدرة الله ونعمته وصفاته كلها غير مخلوقات دائمات أزلية ليست بمحدثات ولا كان ربنا ناقصا فيزيد جلت صفاته عن شبه المخلوقين وقصرت عن فطن الواصفين قريب بالإجابة عند السؤال بعيد بالتعزيز لا ينال عال عرشه بائن عن خلقه موجود ليس بمعدوم ولا مفقود ، والخلق ميتون بآجالهم عند نفاد أرزاقهم وانقطاع آثارهم . ثم هم بعد الضغطة في القبور مسئولون . وبعد البلى منشورون ويوم القيامة إلى ربهم محشورون وعند العرض عليه محاسبون بحضرة الموازين ونشر صحف الدواوين أحصاه الله ونسوه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة لو كان غير الله عز وجل الحاكم بين خلقه ، فالله يلي الحكم بينهم بعدله بمقدار القائلة في الدنيا وهو أسرع الحاسبين كما بدأهم ، من له شقاوة وسعادة . يومئذ تعودون فريق في الجنة وفريق في السعير ، وأهل الجنة يومئذ ينعمون وبصنوف اللذات يتلذذون وبأفضل الكرامة يحبرون ، فهم حينئذ إلى ربهم ينظرون ، لا يمارون في النظر ولا يشكون فوجوههم بكرامته ناضرة وأعينهم بفضله إليه ناظرة في نعيم دائم مقيم ( لا يمسهم فيها نصب وما هم منها بمخرجين ) ( أكلها دائم وظلها تلك عقبى الذين اتقوا وعقبى الكافرين النار ) . وأهل الجحد عن ربهم يومئذ محجوبون وفي النار مسجرون ( لبئس ما قدمت لهم أنفسهم أن سخط الله عليهم وفي العذاب هم خالدون ) لا يقضى عليهم فيموتوا ولا يخفف عنهم من عذابها إلا من شاء الله إخراجه من الموحدين منها ، والطاعة لأولي الأمر فيما كان عند الله عز وجل مرضيا واجتناب ما كان مسخطا وترك الخروج عند تعديهم وجورهم والتوبة إلى الله عز وجل كيما يعطف بهم على رعيتهم والإمساك عن تكفير أهل القبلة والبراءة [ ص: 169 ] منهم فيما أحدثوا ما لم يبتدعوا ضلالة ، فمن ابتدع منهم ضلالة كان عن أهل القبلة خارجا ومن الدين مارقا ويتقرب إلى الله بالبراءة منه ، ونهجر ونتجنب غرته فهي أعدى من غرة الحرب .

ويقال يفضل خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم عمر فهما وزيرا رسول الله صلى الله عليه وسلم وضجيعاه ، ثم عثمان ، ثم علي رضي الله عنهم أجمعين ثم الباقين من العشرة الذين أوجب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الجنة ويخلص لكل رجل منهم من المحبة بقدر الذي أوجبه له رسول الله صلى الله عليه وسلم من التفضيل ثم لسائر أصحابه من بعدهم رضي الله عنهم أجمعين ، ويقال بفضلهم ، ويذكرون بمحاسن أفعالهم ، ويمسك عن الخوض فيما شجر بينهم وهم خيار أهل الأرض بعد نبيهم اختارهم الله عز وجل وجعلهم أنصارا لدينه فهم أئمة الدين وأعلام المسلمين رضي الله عنهم أجمعين ، ولا نترك حضور صلاة الجمعة وصلاتها مع بر هذه الأمة وفاجرها ما كان من البدعة بريا ، والجهاد مع كل إمام عادل أو جائر والحج وإقصار الصلاة في الأسفار والتخيير فيه بين الصيام والإفطار ، هذه مقالات اجتمع عليها الماضون الأولون من أئمة الهدى وبتوفيق الله اعتصم بها التابعون قدوة ورضا وجانبوا التكلف فيما كفوا فسددوا بعون الله ووفقوا لم يرغبوا عن الاتباع فيقصروا ولم يجاوزوه فيعتدوا فنحن بالله واثقون وعليه متوكلون وإليه في اتباع آثارهم راغبون . فهذا شرح السنة تحريت كشفها وأوضحته ، فمن وفقه الله للقيام بما أبنته مع معونته له بالقيام على أداء فرائضه بالاحتياط في النجاسات وإسباغ الطهارات على الطاعات وأداء الصلوات على الاستطاعات وإيتاء الزكاة على أهل الجدات والحج على أهل الجدة [ ص: 170 ] والاستطاعات وصيام شهر رمضان لأهل الصحات ، وخمس صلوات سنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وصلاة الوتر في كل ليلة وركعتا الفجر وصلاة الفطر والنحر وصلاة الكسوف وصلاة الاستسقاء واجتناب المحارم والاحتراز من النميمة والكذب والغيبة والبغي بغير الحق وأن تقول على الله ما لا تعلم ، كل هذه كبائر محرمات والتحري في المكاسب والمطاعم والمحارم والمشارب والملابس واجتناب الشهوات فإنها داعية لركوب المحرمات فمن رعى حول الحمى فإنه يوشك أن يواقع في الحمى فمن يسر لهذا فإنه من الدين على هدى ومن الرحمن على رجاء . وفقنا الله وإياك إلى سبيله الأقوم بمنه الجزيل الأقدم وجلاله العلي الأكرم والسلام عليك ورحمة الله وبركاته وعلى من قرأ علينا السلام ولا ينال سلام الله تعالى الضالون ، والحمد لله رب العالمين .

التالي السابق


الخدمات العلمية