الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  2099 155 - حدثني محمود قال : حدثنا عبد الرزاق قال : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن أبي سلمة ، عن جابر - رضي الله عنه - قال : جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الشفعة في كل مال لم يقسم ، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة .

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  مطابقته للترجمة من حيث إن الشفعة لا تقوم إلا بالشفيع ، وهو إذا أخذ الدار المشتركة بينه وبين رجل حين باع ما يخصه بالشفعة ، فكأنه اشتراه من شريكه ، فصدق عليه أنه بيع الشريك من الشريك . ومحمود هو ابن غيلان بالغين المعجمة ، وعبد الرزاق ابن همام ، ومعمر ابن راشد ، والزهري محمد بن مسلم ، وأبو سلمة ابن عبد الرحمن .

                                                                                                                                                                                  والحديث أخرجه البخاري أيضا عن محمد بن محبوب ، وفيه وفي الشركة وفي الشفعة عن مسدد ، وفي الشركة وفي ترك الحيل عن عبد الله بن محمد ، وأخرجه أبو داود في البيوع أيضا عن أحمد بن حنبل ، وأخرجه الترمذي في الأحكام عن عبد بن حميد ، وأخرجه ابن ماجه فيه عن عبد الرزاق به .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر معناه ) قوله : في كل مال لم يقسم ، وفي رواية للبخاري على ما يأتي عن قريب : في كل ما لم يقسم . ورواه أحمد في مسنده عن عبد الرزاق : في كل ما لم يقسم . ورواه إسحاق بن إبراهيم عنه ، فقال في الأموال : ما لم يقسم . والمراد من قوله : "في كل ما لم يقسم" العقار ، وإن كان اللفظ عاما .

                                                                                                                                                                                  قوله : فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة لأنها حينئذ تكون مقسومة غير مشاعة ، قوله : صرفت على صيغة المجهول بتشديد الراء وتخفيفها .

                                                                                                                                                                                  ( ذكر مذاهب العلماء في هذا الباب ) مذهب الأوزاعي والليث بن سعد ومالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبي ثور : أن لا شفعة إلا لشريك لم يقاسم ، ولا تجب الشفعة بالجوار ، واحتجوا بحديث جابر المذكور ، واحتجوا أيضا بما رواه الطحاوي من حديث أبي الزبير عن جابر قال : قال رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - : " الشفعة في كل شرك بأرض أو ربع أو حائط لا يصلح أن يبيع حتى يعرض على شريكه فيأخذ أو يدع " . وأخرجه مسلم وأبو داود أيضا ، واحتج الثوري والحسن بن حي ، وإسحاق ، وأحمد في رواية ، وأبو عبيد ، والظاهرية أن أحد الشريكين إذا عرض عليه الآخر فلم يأخذ ، سقط حقه من الشفعة ، وروي ذلك عن الحكم بن عتيبة أيضا .

                                                                                                                                                                                  وقال الطحاوي : وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي وأصحابهم : لا يسقط حقه بذلك ، بل له أن يأخذ بعد البيع ; لأن الشفعة لم تجب بعد ، وإنما تجب له بعد البيع ، فتركه ما لم يجب له بعد لا معنى له ، ولا يسقط حقه إذا وجب ، وقال النخعي ، وشريح القاضي ، والثوري ، وعمرو بن حريث ، والحسن بن حي ، وقتادة ، والحسن البصري ، وحماد بن أبي سليمان ، وأبو حنيفة ، وأبو يوسف ، ومحمد : تجب الشفعة في الأراضي والرباع والحوائط للشريك الذي لم يقاسم ، ثم للشريك الذي قاسم وقد بقي حق طريقه أو شربه ، ثم من بعدهما للجار الملازق ، وهو الذي داره على ظهر الدار المشفوعة ، وبابه في سكة أخرى .

                                                                                                                                                                                  وروي عن عطاء أنه قال : الشفعة في كل شيء حتى في الثوب ، وحكى مقالة عطاء عن بعض الشافعية ومالك ، وأنكره القاضي أبو محمد ، وحكى عن مالك وأحمد وجوب الشفعة في السفن . وفي حاوي الحنابلة : وكل ما لا يقسم ، ولا هو متصل بعقار ، كالسيف ، والجوهرة ، والحجر ، والحيوان ، وما في معنى ذلك ، ففي وجوب الشفعة فيه روايتان ذكرهما ابن أبي موسى ، ولا تؤخذ الثمار بالشفعة تبعا ، ذكره القاضي ، وقال أبو الخطاب : تؤخذ ، وعلى ذلك يخرج الزرع ، ولا شفعة فيما يقسم من المنقولات بحال ، وقال النووي في الروضة : ولا شفعة في المنقولات سواء بيعت وحدها أم مع الأرض ، ويثبت في الأرض سواء بيع الشقص منها وحده ، أم مع شيء من المنقولات ، وما كان منقولا ، ثم أثبت في الأرض للدوام كالأبنية والأشجار ، فإن بيعت منفردة ، فلا شفعة فيها على الصحيح .

                                                                                                                                                                                  [ ص: 21 ] ولو كان على الشجر ثمرة مؤبرة وأدخلت في البيع بالشرط ، لم تثبت فيها الشفعة ، فيأخذ الشفيع الأرض والنخيل بحصتهما ، وإن كانت غير مؤبرة دخلت في البيع ، وهل للشفيع أخذها ؟ وجهان أو قولان ، أصحهما نعم ، انتهى .

                                                                                                                                                                                  ثم اختلف من يقول بالشفعة للجار ، فقال أصحابنا الحنفية : لا شفعة إلا للجار الملازق ، وقال الحسن بن حي : للجار مطلقا بعد الشريك ، وقال آخرون : الجار الذي تجب له الشفعة أربعون دارا حول الدار ، وقال آخرون : من كل جانب من جوانب الدار أربعون دارا ، وقال آخرون : هو كل من صلى معه صلاة الصبح في المسجد ، وقال بعضهم : أهل المدينة كلهم جيران ، وحجة أصحابنا فيما ذهبوا إليه أحاديث رويت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - .

                                                                                                                                                                                  منها ما رواه الطحاوي بإسناد صحيح ، فقال : حدثنا إبراهيم بن أبي داود البرنسي قال : حدثنا علي بن صالح القطان وأحمد بن حبان قالا : حدثنا عيسى بن يونس قال : حدثنا سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن أنس ، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " جار الدار أحق بالدار " ، وأخرجه البزار أيضا في مسنده .

                                                                                                                                                                                  ( فإن قلت ) قال الترمذي : ولا يعرف حديث قتادة عن أنس إلا من حديث عيسى بن يونس .

                                                                                                                                                                                  قلت : ما لعيسى بن يونس ، فإنه حجة ثبت ، فقال ابن المديني حين سئل عنه : بخ بخ ثقة مأمون . وقال محمد بن عبد الله بن عمار : عيسى حجة ، وهو أثبت من إسرائيل ، وقال العجلي : كان ثبتا في الحديث ، فإذا كان كذلك ، فلا يضر كون الحديث عنه وحده .

                                                                                                                                                                                  ومنها حديث سمرة بن جندب أخرجه الترمذي ، وقال : حدثنا علي بن حجر قال : أخبرنا إسماعيل بن علية ، عن سعيد ، عن قتادة ، عن الحسن ، عن سمرة بن جندب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " جار الدار أحق بالدار " ، وقال الترمذي : حديث حسن صحيح ، وأخرجه الطحاوي من ستة طرق صحاح أحدها مرسل .

                                                                                                                                                                                  ( فإن قلت ) الحسن لم يسمع من سمرة إلا ثلاثة أحاديث وهذا ليس منها ، قلت : قال الترمذي عن البخاري - رضي الله تعالى عنه - : إنه سمع منه عدة أحاديث ، وقال الحاكم في أثناء كتاب البيوع من المستدرك : قد احتج البخاري بالحسن عن سمرة ، وذلك بعد أن روى حديثا من رواية الحسن عن سمرة .

                                                                                                                                                                                  ومنها حديث علي بن أبي طالب وعبد الله بن مسعود - رضي الله تعالى عنهما - أخرجه الطحاوي ، وقال : حدثنا أبو بكرة ، حدثنا أبو أحمد قال : حدثنا سفيان عن منصور عن الحكم ، عمن سمع عليا وعبد الله بن مسعود يقولان : قضى رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - بالجوار .

                                                                                                                                                                                  وأخرجه ابن أبي شيبة في مصنفه قال : حدثنا جرير بن عبد الحميد ، عن منصور ، عن الحكم ، عن علي وعبد الله قالا : قضى رسول الله - صلى الله تعالى عليه وسلم - بالشفعة للجوار .

                                                                                                                                                                                  قلت : في سند الطحاوي مجهول ، وفي سند ابن أبي شيبة الحكم عن علي ، والحكم لم يدرك عليا ولا عبد الله .

                                                                                                                                                                                  ومنها حديث عمرو بن حريث أخرجه الطحاوي بإسناد صحيح مثل الحديث الذي قبله ، وأخرجه ابن أبي شيبة موقوفا على عمرو بن حريث أنه كان يقضي بالجوار ، أي : يقضي للجار بالشفعة بسبب الجوار . وروى الطحاوي أيضا بإسناده إلى عمر - رضي الله تعالى عنه - أنه كتب إلى شريح أن يقضي بالشفعة للجار الملازق ، وأخرجه أيضا ابن أبي شيبة نحوه ، وفيه : فكان شريح يقضي للرجل من أهل الكوفة على الرجل من أهل الشام ، وأجاب الأصحاب عن حديث الباب أن جابرا قال : جعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الشفعة في كل مال لم يقسم ، ولفظه في حديثه الثاني الذي يأتي عقيب هذا الباب : "قضى النبي - صلى الله عليه وسلم - بالشفعة في كل ما لم يقسم " ، وهذان اللفظان إخبار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بما قضى ، ثم قال بعد ذلك : فإذا وقعت الحدود ... إلى آخره .

                                                                                                                                                                                  وهذا قول من رأى جابرا لم يحكه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وإنما يكون هذا حجة علينا أن لو كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال ذلك ، على أنه روي عن جابر أيضا أنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " الجار أحق بشفعة جاره ، فإن كان غائبا انتظر إذا كان طريقهما واحدا "، أخرجه الطحاوي من ثلاث طرق صحاح ، وأخرجه أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه أيضا ، وقال الترمذي : هذا حديث حسن غريب ، ولا نعلم أحدا روى هذا الحديث غير عبد الملك بن مالك بن أبي سليمان عن عطاء عن جابر ، وقد تكلم شعبة في عبد الملك من أجل هذا الحديث ، وعبد الملك ثقة مأمون عند أهل الحديث ، لا نعلم أحدا تكلم فيه غير شعبة من أجل هذا الحديث ، وقد روى وكيع عن شعبة عن عبد الملك هذا الحديث ، وروى عن ابن المبارك عن سفيان الثوري قال : عبد الملك بن أبي سليمان ميزان ، يعني في العلم .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية