الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فيقال: هب أن ظاهره أنهم أمروا بالفسق، لكن قد عرف أن الأمر في القرآن نوعان:

أمر تكليف، كالأمر بالشرائع التي بعث بها الأنبياء.

وأمر تكوين، كقوله تعالى: إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون [يس: 82]. وقوله تعالى: وكان أمر الله قدرا مقدورا [الأحزاب: 38]. أي مأموره، وقوله تعالى: أتى أمر الله فلا تستعجلوه [النحل: 1]. أي مأموره أمر التكوين الذي قدره وقضاه من إظهار الإيمان والثواب والعقاب ونصر المؤمنين وعقوبة الكافرين، ومنه قوله تعالى: وما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر [القمر: 50]. ونحو هذا، وإذا كان الأمر نوعان، فهنا إنما أراد أمر التكوين.

والآي نفسها وما اتصل بها قبلها وبعدها تدل على الواقع كدلالة غيرها من القرآن، فإنه قال قبل هذه الآية: وكل إنسان ألزمناه طائره في عنقه ونخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [ ص: 422 ] [الإسراء: 13-15].

فدل بهذه الآيات على أن من عمل صالحا فلنفسه عمل، ومن عمل سيئا فعليه، وأنه لا يعاقب إلا بذنبه، لا يحمل عليه ذنب غيره، ولا يعذب حتى يبعث إليه الرسول، وهذا المعنى مذكور في القرآن في غير موضع أنه لا يعذب أحدا ولا يهلكه إلا بذنبه، وبعد إرسال الرسول إليه، كقوله تعالى: وما أهلكنا من قرية إلا لها منذرون ذكرى وما كنا ظالمين [الشعراء: 208-209]. وقوله تعالى: وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير [الشورى: 30]. وقوله تعالى: وما أصابك من سيئة فمن نفسك [النساء: 79]. وقوله تعالى: ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس [الروم: 41]. وقوله تعالى: وما كان ربك مهلك القرى حتى يبعث في أمها رسولا يتلو عليهم آياتنا وما كنا مهلكي القرى إلا وأهلها ظالمون [القصص: 59]. ومثل هذا كثير، وقد قال تعالى في هذه السورة: وإن من قرية إلا نحن مهلكوها قبل يوم القيامة أو معذبوها عذابا شديدا كان ذلك في الكتاب مسطورا [الإسراء: 58]. فلما ذكر ما تقدم من الآيات أن كل عامل يلزمه عمله خيرا كان أو شرا، وأن هداه لنفسه، وضلاله عليها، وأنه لا يحمل [ ص: 423 ] عليه ذنب غيره، ولا يعذب حتى يبعث إليه الرسول، ذكر بعد هذا أنه إنما اقتضت حكمته ومشيئته إهلاك قرية - كيف يفعل أنه لا يعذبهم بغير ذنوبهم، كما أخبر بذلك فقال تعالى: وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها [الإسراء: 16]. فقد أخبر أن هذا الأمر إنما يكون إذا أراد هلاكهم، وما شاء الله عز وجل كان، فلا بد من وقوع هلاكهم، والهلاك إنما يكون بالذنوب، وأمر التكليف الذي هو الأمر بالحسنات والنهي عن السيئات لا يستلزم وقوع المعصية، بل قد يأمرهم فيطيعون، فلا يستحقون العذاب، بخلاف أمر التكوين، كما قال تعالى: فألهمها فجورها وتقواها [الشمس: 8]. وكما قال تعالى: أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا [مريم: 83]. وقال تعالى: فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم [الصف: 5]. وقال تعالى: ونقلب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة [الأنعام: 110]. وقال تعالى: ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون [الأنعام: 125].

وفي الحديث: «إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها، ومن عقوبة السيئة السيئة بعدها».

وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «عليكم بالصدق، فإن [ ص: 424 ] الصدق يهدي إلى البر، والبر يهدي إلى الجنة، ولا يزال الرجل يصدق حتى يكتب عند الله صديقا، وإياكم والكذب، فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل لا يزال يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا.

فالمترفون من أهل القرى الذين قال فيهم الله عز وجل: واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين [هود: 116]. وقال في أصحاب المشأمة: إنهم كانوا قبل ذلك مترفين وكانوا يصرون على الحنث العظيم [الواقعة 45-46]. [ ص: 425 ] يعاقبون على ذلك بأن يجعل في قلوبهم دواعي إلى الفسق الذي يستحقون به العذاب، فهذا أمر المترفين بأن يفسقوا فيها، وحينئذ يحق عليهم القول فيدمرها تدميرا.

فقوله تعالى: وإذا أردنا أن نهلك قرية [الإسراء: 16]. دل على أن هذا الأمر أريد به إهلاكهم، وأمر التكليف ليس كذلك، وقوله تعالى: أمرنا مترفيها دل على أنه ليس أمرا عاما، وأمر التكليف ليس كذلك، فالأمر بالإيمان والعمل الصالح عام لا يختص بالمترفين، على أن مقصود الآية: إنا لا نهلكهم إلا بذنوبهم، كما قال تعالى: وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا [الإسراء: 15]. فإذا أردنا إهلاكهم لم نهلكهم إلا بذنب، بل يلهمهم فجورهم فيستحقون بذلك العذاب، فقد تبين في نفس الآية أنه لم يرد أمر التكليف والتشريع الذي أرسل به الرسل، فإنه لا يأمر أحدا بفسق ولا معصية، وقد دل القرآن في غير موضع على أنه إنما يأمر بالأعمال الحسنة، لا يأمر بالشر، بل ينهى عن أنواع الشر، وما يسمى فسقا، ويذم ذلك ويتوعد عليه، كما قال تعالى: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي [النحل: 90]. [ ص: 426 ]

وقال تعالى: ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان [الحجرات: .11]. وقال تعالى: أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون إلى قوله تعالى: وأما الذين فسقوا فمأواهم النار [السجدة: 18-20]. وقال تعالى: وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا [الكهف: 50]. وقال تعالى: وذروا ظاهر الإثم وباطنه [الأنعام: 120]. وقال تعالى: وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله [المائدة: 2]. وقال تعالى: إذا تناجيتم فلا تتناجوا بالإثم والعدوان ومعصيت الرسول وتناجوا بالبر والتقوى واتقوا الله الذي إليه تحشرون [المجادلة: 9]. ومثل هذا كثير، وقد بسط الكلام على هذه الآية ونحوها في غير هذا الموضع، وبين أن لفظ الأمر، والإرادة، والإذن، والحكم، والقضاء، والكتاب، والكلمات، والتحريم، والبعث، والإرسال ... وغير ذلك، ينقسم إلى ديني وكوني شرعي وقدري فالرب تعالى له الخلق والأمر، وعلينا أن نؤمن بدينه وبشرعه، ونؤمن بقضائه وقدره، فلفظ الإرادة يكون بمعنى المحبة والرضى لما شرعه، وبمعنى المشيئة لما يخلقه. [ ص: 427 ]

والأول هو كقوله تعالى: يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر [البقرة: 185]. وقوله: ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج ولكن يريد ليطهركم وليتم نعمته عليكم [المائدة: 6]. وقوله: يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم [النساء: 26]. وقوله: إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت [الأحزاب: 33].

والثاني كقول نوح عليه السلام: ولا ينفعكم نصحي إن أردت أن أنصح لكم إن كان الله يريد أن يغويكم [هود: 34]. وقوله: فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا [الأنعام: 125]. وأمثال ذلك.

ولفظ الإذن الشرعي كقوله تعالى: إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا [الأحزاب: 45-46]. وقال تعالى: ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين [الحشر: 5].

وأما الإذن الكوني المحض فقوله تعالى: [ ص: 428 ] وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله [البقرة: 102].

والحكم الديني كقوله تعالى: أحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم غير محلي الصيد وأنتم حرم إن الله يحكم ما يريد [المائدة: 1].

والحكم الكوني كقول يعقوب عليه السلام: وما أغني عنكم من الله من شيء إن الحكم إلا لله عليه توكلت وعليه فليتوكل المتوكلون [يوسف: 67].

والقضاء بمعنى الشرع كقوله تعالى: وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه [الإسراء: 23]. وبمعنى الخلق كقوله تعالى: فقضاهن سبع سماوات في يومين [فصلت: 12].

والبعث الديني كقوله تعالى: هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم [الجمعة: 2]. والكوني كقوله تعالى: بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد [الإسراء: 5].

والإرسال الديني كقوله تعالى: إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا [الفتح: 8]. وقوله: [ ص: 429 ] إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم [المزمل: 15]. والكوني وقوله: أنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا [مريم: 83]. وبسط هذا له موضع آخر.

التالي السابق


الخدمات العلمية