الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
[ ص: 540 ] الوجه الثالث: قوله عن مذهبهم: "إنه يجب القطع أن مراد الله تعالى منها غير ظاهرها، ويجب تفويض معناها إلى الله تعالى".

فيقال: هذا الذي لا يعرف عن أحد من السلف رحمهم الله تعالى، لا يعرف عن أحد منهم أنه قال: يجب القطع بأن مراد الله منها غير ظاهرها، ثم يجب تفويض معناها إلى الرب تعالى، بل المعروف عن السلف نفي تشبيهها ومماثلتها بصفات المخلوقين، وإنكارهم على الذين يقولون: يد كيدي، وقدم كقدمي، ونزول كنزولي، واستواء كاستوائي .. ونحو ذلك. فهذا ثابت صريح عن غير واحد من السلف وأئمة السنة، ولا يعرف عن أحد من السلف وأئمة الإسلام المعروفين أنه قال: إن الله تعالى جسم أو جوهر أو متحيز، ولا قال: إنه ليس بجسم ولا جوهر ولا متحيز، ولا قال: هو في جهة، ولا ليس في جهة، فهذه الألفاظ نفيا وإثباتا لا توجد في القرآن والحديث، ولا يوجد نفيها [ ص: 541 ] ولا إثباتها في كلام أحد من الصحابة ولا التابعين لهم بإحسان، ولا أحد من أئمة المسلمين المعروفين بالإمامة في الدين؛ كالأربعة: أبي حنيفة ومالك والشافعي وأحمد، وكسفيان الثوري، والليث بن سعد، والأوزاعي، وحماد بن زيد، وسفيان بن عيينة، وعبد الله بن المبارك ... وغيرهم، [ ص: 542 ] ولا يعرف أيضا عن أحد من السلف أنه قال: إن مراد الله تعالى منها غير ظاهرها، فضلا عن أن يقول: يجب القطع بشيء، بل لفظ الظاهر مجمل، فقد يراد بالظاهر ما يماثل صفات المخلوقين، فهذا هو الذي نفاه السلف كما دل الكتاب على معنى ذلك، وكذلك العقل، قال تعالى: ليس كمثله شيء [الشورى: 11]. وقال تعالى: ولم يكن له كفوا أحد [الإخلاص: 4]. وقال تعالى: هل تعلم له سميا [مريم: 65].

فمن قال: إنه استوى على العرش كاستواء الملك، بحيث يكون محتاجا إلى العرش، فهذا تمثيل منكر، فإن الله تعالى غني عن كل ما سواه، والعرش وكل مخلوق مفتقر إلى الله تعالى من كل وجه، وهو بقدرته يحمل العرش وحملته.

وكذلك من قال: ينزل كنزول المخلوق بحيث يبقى تحت [ ص: 543 ] العرش ويخلو منه العرش، فهذا يقوله طائفة، والسلف أنكروا ذلك، كما أنكره حماد بن زيد، وإسحاق بن راهويه، وغيرهما، وقالوا: إنه ينزل ولا يخلو منه العرش، وهو فوق العرش، وهو يقرب من خلقه كيف يشاء، وكذلك من قال: إنه في السماء بمعنى أن الأفلاك تحويه، فمن قال: إنها تحمل على الظاهر بهذا المعنى، فهذا قوله قول باطل منكر عند السلف، كما دل الكتاب والسنة على بطلانه.

وأما إذا قيل تحمل على الظاهر اللائق بجلال الله تعالى، كما تحمل سائر الصفات، مثل لفظ المشيئة والسمع والبصر والقدرة والعلم، فإن مثبتة الصفات يحملون هذه على ظاهرها عند عامة المسلمين، إلا الغلاة المنكرون للأسماء، ومع هذا فليس مفهومها في حق الله تعالى مثل مفهومها في حق المخلوق، بل هنا ثلاث اعتبارات: أن تذكر مطلقة، وأن تذكر مضافة إلى الرب، وأن تذكر مضافة إلى العبد، فإذا ذكرت مضافة إلى الرب مثل قوله تعالى: ولا يحيطون بشيء من علمه [البقرة: 255]. [ ص: 544 ] وقوله: إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين [الذاريات: 58]. وقوله: ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلما [غافر: 7]. وقوله: ورحمتي وسعت كل شيء [الأعراف: 156]. ونحو ذلك، فهنا يمتنع أن يدل على شيء من خصائص صفات المخلوقين.

وإذا ذكرت مضافة للعبد كقوله تعالى عن يعقوب: وإنه لذو علم لما علمناه [يوسف: 68]. وقوله: ثم جعل من بعد ضعف قوة [الروم: 54]. وقوله: وقالوا من أشد منا قوة [فصلت: 15]. فهنا يمتنع أن يدخل فيها شيء من خصائص الرب تعالى، وإذا ذكرت عامة مطلقة فقيل: العلم ينقسم إلى علم الرب وعلم العبد، والموجود ينقسم إلى القديم والحديث. فاللفظ العام المطلق الذي هو مورد المعتبر به يدل على شيء من خصائص الرب تعالى، ولا على خصائص العبد.

التالي السابق


الخدمات العلمية