الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وكذلك قال الشافعي: "لأن يبتلى العبد بكل ذنب ما خلا [ ص: 486 ] الإشراك بالله، خير له من أن يبتلى بالكلام في الأحداث".

وقال: "حكمي في أهل الكلام أن يضربوا بالجريد والنعال، ويطاف بهم في العشائر والقبائل، ويقال: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة". والشافعي أشار إلى كلام حفص الفرد وأمثاله، وكان على طريقة ضرار بن عمرو.

وأحمد أشار إلى كلام هذا وأمثاله، فإنه كان أفضل من ناظر، وأبو عيسى محمد بن عيسى برغوث، وهو من أتباع [ ص: 487 ] حسين النجار، وكلام أولئك خير من كلام هؤلاء، الذين جمعوا إلى تعطيل أولئك إلحاد الفلاسفة، مع أن أولئك لم يظهروا كل ما في قلوبهم للأئمة. فالجهمية لم تكن تظهر لهم: "لا داخل العالم ولا خارجه" وإنما أظهروا: "أنه في كل مكان"، فالأئمة استعظموا ما أظهروه، فكيف ما أبطنوه؟ والذي أبطنه أولئك هو خير من قول الملاحدة الذين جمعوا بين أقوال الجهمية والفلاسفة الدهرية، وقد كان الثقة يحدث عن الشيخ أبي عمرو ابن الصلاح أنه لما رأى [ ص: 488 ] قوله: "إن الأدلة السمعية لا تفيد اليقين" لعنه على ذلك، وقال: هذا تعطيل الإسلام. وقد بسط هذا في مواضع، والمقصود هنا أن يتبين أن دعواه أن كل دليل سمعي موقوف على مقدمات ظنية دعوى باطلة معلوم فسادها بالاضطرار، ولو صح هذا لكان لا يجزم أحد بمراد أحد، ولكان العلم بمراد كل متكلم لا يكون إلا ظنا، وهذا مما يعلم فساده بالاضطرار، وإذا كان آحاد العامة قد بين مراده بكلامه حتى يقطع بمراده، فالعلماء أولى بذلك، وإذا كان العلماء المصنفون في العلوم يقطع بمرادهم في أكثر ما يقولونه كما يقطع بمراد الفقهاء والأطباء والحساب وغيرهم، فالرسول الذي هو أكمل الخلق علما وبيانا ونصحا أولى أن يبين مراده ويقطع به، وكلام الله تعالى أكمل من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، وأكمل بيانا، فهو أولى [ ص: 489 ] بالقطع بمراد الرب فيه من كلام كل أحد، ومعاني الكلام منقولة بالتواتر معلومة بالاضطرار أعظم من ألفاظه، والمسلمون كلهم يعلمون بالاضطرار أن الله تعالى أمر بغسل الوجه واليدين ومسح الرأس في الوضوء، وبالاغتسال من الجنابة، وبالتيمم، وأن الله تعالى أمر بالصلاة إلى الكعبة، وأمر بالحج إلى البيت الذي بمكة، والطواف به، وبالتعريف بعرفات، وصوم شهر رمضان، وامتناع الصائم من الأكل والشرب والنكاح، وغير ذلك من معاني القرآن، وأكثرهم لا يحفظون حروف القرآن. فمعانيه التي دلت عليها هي معلومة عندهم بالاضطرار، منقولة بالتواتر، أعظم من العلم بألفاظه الدالة على تلك المعاني، ولا يحتاجون في ذلك إلى نقل اللغة، ولا نفي المعارض، بل الأمر موقوف على مقدمة واحدة وهو العلم بمراد المتكلم، وهذا قد يعلم اضطرارا، وقد يعلم بأدلة قطعية، وقد يكون ظنا، كذلك العلم بما أخبر به الرسول صلى الله عليه وسلم من أسماء الرب وصفاته، ومن اليوم الآخر كثير منه أو أكثره معلوم عند الأمة اضطرارا نقلا متواترا. [ ص: 490 ]

وإن كان أكثرهم لا يحفظون حروفه، وإذا سمعوا حروفه علموا قطعا أنها دالة على تلك المعاني المعلومة عندهم، كما إذا سمعوا قوله تعالى: ولله على الناس حج البيت [آل عمران: 97]. علموا أن المراد بلفظ البيت البيت الذي بمكة، وإذا سمعوا: شهر رمضان علموا أن المراد بهذا اللفظ بالشهر: التاسع الذي بين شعبان وشوال، وإذا سمعوا: خلق السماوات والأرض علموا أن المراد بذلك أنه هو الذي أحدثهما وابتدأهما وأنشأهما، لا أنهما قديمتان ملازمتان له.

وإذا سمعوا قوله تعالى: كذلك يحيي الله الموتى [البقرة: 73]. وقوله: كذلك النشور [فاطر: 9]. علموا أن المراد بذلك إحياء الموتى للقيامة، وإذا سمعوا قوله تعالى وتقدس: إنني معكما أسمع وأرى [طه: 46]. علموا أن ذلك معنى أنه سميع بصير، وأمثال ذلك كثير.

التالي السابق


الخدمات العلمية