الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
الوجه الثامن: هب أن الجهة في العلو أو الدهر في القدم شيء موجود تبع له، فوجوده تبع لوجود الحق لا أن علو الحق وقدمه تبع له، فإن ذلك يكون داخلا في مسمى نفسه، كما يقال: إن الحيز هو جوانب المتحيز فإن كون الدهر هو عبارة عن قدمه فقدمه وحيزه داخل في مسماه، وصفة من صفاته، فلا يكون هو سبحانه تبعا لصفاته، ولو قدر شيئا خارجا عن صفاته لكان وجوده تابعا لوجود الحق. وكان الحق [ ص: 170 ] هو الموجب له، فكيف يكون عاليا لا لذاته، لكن تبعا لكونه حاصلا في تلك الجهة وهو الغني عن كل ما سواه، وكل ما سواه مفتقر إليه سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون والعادلون به علوا كبيرا.

فإن كلام هذا وأمثاله عدل بالله وإشراك به، وجعل أنداد له؛ وضرب أمثال له: حيث جعل علوه وفوقيته على العالم بمنزلة علو الملك على سريره، أو هو في هواء سطحه الذي قد سفل الرجل عنه، فيكون دونه، ويكون ذاك باقيا على علوه، وجعل علوه محتاجا إلى ما يعلوه به كما يحتاج الإنسان إلى السطح أو السرير. فكلامه في علو الله تعالى يوجب أنه جعله مثل هذا العلو: يجمع من التمثيل لله والعدل به ابتداء، ومن جحد علوه المستلزم لجحود ذاته انتهاء، ولهذا كان السلف والأئمة يصفون هؤلاء بالأمرين بأنهم ممثلون عادلون بالله، [ ص: 171 ] وبأنهم معطلون جاحدون لله ولا حول ولا قوة إلا بالله، وهذا الذي قاله السلف والأئمة يلزمهم لزوما لا محيد عنه، وقد يظهر هذا تارة، وكثيرا ما يظهر الأمران، ولا ريب أنهم إنما عدلوا به في هذه المعاني لينفوها عنه ظانين أن هذا تنزيه لله وتقديس، لم يقصدوا أن يثبتوا له مثلا، ولكن قدر المثل لينفوه، لكن لزمهم التمثيل من وجهين:

أحدهما: أنهم سووا بين الله وبين غيره في هذه المقاييس الشمولية المنطقية، وهي الأمثال التي ضربوا له، فجعلوه فردا من أفراد تلك الأمور العامة، وحكموا عليه بمثل ما حكموا به على سائر الأفراد، حيث قالوا: كل ما كان فوق غيره فلا بد أن يكون كذا، أو كل ما كان كذا فلا بد أن يكون كذا. وأيضا فإنهم مثلوه بغيره على ذلك التقدير. وهو لا يكون مثلا لغيره لا تحقيقا ولا تقديرا من التقادير التي يقع فيها شبهة ونزاع على ذلك التقدير، فعلم أن له من الخصوص ما يقطع مماثلته لغيره.

الوجه الثاني: أن هذه المعاني التي ينفونها هي ثابتة في نفس الأمر معلومة بالكتاب والسنة وبالفطرة والعقل وبالقياس أيضا. فإذا مثلوه فيها بالمخلوقات فقد صرحوا بجعل الأنداد [ ص: 172 ] له والأمثال والأسماء ثم إنهم عطلوا فجحدوا الحقائق التي هي ثابتة للرب، وعطلوا ما في الكتاب والسنة والإجماع من بيان ذلك والدلالة عليه، وعطلوا ما في القلوب من المعرفة الفطرية والقياسية فصاروا معطلين للحقيقة الخارجية والعلوم الثابتة بالنبوات المعروفة بالقلوب، فعطلوا الشرع والعقل جميعا مع دعواهم العقليات، كما عطلوا التوحيد مع دعواهم أنهم هم الموحدون.

التالي السابق


الخدمات العلمية