الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
وقد نقلوا عن أساطين الفلاسفة القدماء أنهم قالوا: العلم الإلهي لا سبيل فيه إلى اليقين، وإنما نتكلم بالأولى والأخلق والأحرى، وحملوا ذلك على أنهم أرادوا أنه ليس فيه إلا الظن [ ص: 582 ] الغالب، فإن كانوا أرادوا هذا فناهيك بهذا الإفلاس من معرفة الله تعالى، ولكن يحتمل أنهم أرادوا أن اليقين الذي يستفاد بالمقاييس الشمولية والتمثيلية المستعملة في الموجودات لا توجد في حق الله تعالى، ولكن هؤلاء أحق وأولى وأحرى بما يثبت من صفات الكمال وبما ينفي من صفات النقص، ومعلوم أن ذلك الرجحان والفضل غير معلوم قدره ووصفه بالقياس، فحينئذ لا لنا سبيل إلى اليقين بالحقيقة التي دل عليها القياس العقلي، فهذا إن أرادوه فهو جيد لهم. ومن قال ذلك فقد قال الحق، وأعطى النظر القياسي حقه، إذ لا يمكن به معرفة الربوبية غير هذا، وهو معرفة مجملة وغير مفصلة.

وبكل حال فقد لا يحتاج إلى هذه المقاييس وهذه الطرق النظرية، بل استغنى عنها بالفطرة البديهية الضرورية عاما وخاصا، وبالآيات المشهودة والمسموعة، وعلم جماهير الخلق من هذا الباب، وهو أثبت وأرسخ من علم أولئك، فإن أولئك عندهم من الشك والارتياب وأنواع التلون والاضطراب ما لا يوجد عند عامة هؤلاء فضلا عمن كان من ذوي الألباب.

[ ص: 583 ] والآيات لا يحتاج فيها إلى القياس، كما أن الشعاع آية على الشمس، وليس ذلك بقياس الشمس على غيرها من المؤثرات، وبقياس الشعاع على غيره من الآثار. بل عند الناس علم فطري بالحس والعقل أن نفس الشعاع مستلزم للشمس على وجه لا يشرك الشمس في ذلك غيرها، وما من مخلوق إلا وهو نفسه آية على خالقه على وجه لا يشركه فيه غيره كما قيل:


وفي كل شيء له آية تدل على أنه واحد

لكن الكلام في هذا يحتاج إلى بسط طويل ليس هذا موضعه. وإنما الغرض التنبيه على أن ما ذكره أهل الإثبات من إقرار العباد بفطرهم أن ربهم فوقهم، إذا كان مستلزما لإقرارهم بربهم بفطرهم، وأن الإقرار به فطري، فليس في لزوم ذلك شيء من الاستبعاد إذ على القول بذلك جماهير أصناف العباد، وإنما يستبعد ذلك من غير مبتدعة المتكلمين فطرته، وسلكوا به في مسالكهم الحرجة الضيقة، وأوهموا أنهم هم العارفون بالحجة والدليل دون الأولين والآخرين من كل صنف وجيل. وهذا كما تزعمه القرامطة الباطنية أنهم خلاصة أهل المعرفة [ ص: 584 ] والتحقيق، دون من لم يسلك هذه الطريق. ويزعم الاتحادية أنهم خلاصة الخاصة من أهل الله، دون سائر عباد الله، ويزعم الرافضة أنهم هم أولياء الله المتقون. فدعاوى هؤلاء المتكلمين والجهمية ودعاوى الرافضة والاتحادية والقرامطة والباطنية هي من دعاوى شر البرية. فالحمد لله الذي هدانا بالإسلام ومن علينا [ ص: 585 ] بالقرآن، وأرسل إلينا رسولا من أنفسنا يتلو علينا آياته ويزكينا ويعلمنا الكتاب والحكمة وإن كنا من قبل لفي ضلال مبين.

التالي السابق


الخدمات العلمية