الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
والمقصود: أنه بين أن وصفه بأنه لا يعرف بشيء من الحواس، هو أصل كلامه الذي لزمه به التعطيل، وأنه لا يثبت شيئا لأن ما يكون كذلك لا يكون شيئا. وهذا أمر مستقر في فطر المؤمنين لا يشكون في أن الله تعالى قادر على أن يريهم نفسه، وإنما يشكون هل يكون ذلك أو لا يكون، كما سأل المؤمنون النبي صلى الله عليه وسلم: " هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال: نعم، هل تضارون في رؤية الشمس" وهذا ثابت في الأحاديث الصحيحة المستفيضة المتواترة، فإنما كانوا شاكين هل يرون ربهم، لم يكونوا شاكين هل يقدر على أن يريهم نفسه، وكذلك في المعاد يعلمون أنهم عاجزون عن رؤيته كما أنهم عاجزون عن أن [ ص: 324 ] يقدروا بسمعهم وببصرهم على أكثر مما هم قادرون عليه، كما يعجزون عن رؤية الأشياء البعيدة والأشياء اللطيفة مع علمهم أن الله قادر أن يريهم ذلك، وكذلك من قبلهم من الأمم، ولهذا سأل موسى ربه الرؤية وسأل قومه أن يروا الله جهرة، كما سألوا سائر الآيات، فإنهم وإن كانوا مذمومين على مسألة الآيات، فليسوا مذمومين على علمهم بأن الله قادر عليها، كما قد يسأل الرجل ما لا يصلح، وهو من الاعتداء في الدعاء، مثل أن يسأل منازل الأنبياء ونحو ذلك، فإن الله قادر على ذلك، ولكن مسألة هذا عدوان.

ولهذا لا يوجد أن أحدا من الأمم السليمة الفطرة قال: إن رؤية الله ممتنعة عليه، يعني: أنه لا يجوز أن يكون مرئيا بحال، وليس في مقدوره أن يري أحدا نفسه، بل هم إذا نفوا الرؤية كان لعظمته من جهة القدر أو الوصف، مثل قوله: لا تدركه الأبصار [الأنعام: 33] أي لا تحيط به، ومثل قوله صلى الله عليه وسلم: " نور أنى أراه" وقال: " رأيت [ ص: 325 ] نورا"، وهذا في المخلوقات. فالخالق أعظم، فإن السماء ينفى عنها إدراك البصر لسعتها، والشمس لبرهانها وشعاعها الذي يعشي البصر، فيكون ذلك لعجز البصر عن وصف المرئي وقدره.

أما أن يقال: إن موجودا عظيما يمتنع في نفسه أن يكون مرئيا كما يمتنع ذلك في المعدوم، فهذا خلاف ما فطر الله عليه عباده، بل حيث كان الوجود أكمل كان أحق بأن يجوز أن يرى ويشهد، لكن بشرط قوى الرائي وكماله، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الأحاديث الصحيحة: " إنكم ترون ربكم كما ترون الشمس والقمر لا تضامون في رؤيته" وفي رواية: " كما ترون الشمس صحوا ليس دونها سحاب" فقوله:" لا تضامون" [ ص: 326 ] ولا تضارون نفي لأن يلحقهم ضيم أو ضير كما يلحقهم في الدنيا في رؤية الشيء: إما لظهوره كالشمس، أو لخفائه كالهلال.

وأما المعدوم: فالإحساس به برؤية أو غيرها يقتضي أن يكون موجودا معدوما، فإن كونه معدوما يقتضي أنه ليس في الخارج فرؤيته في الخارج يقتضي أنه في الخارج، فيقتضي الجمع بين النقيضين: الوجود والعدم، وهذا باطل ممتنع لا حقيقة له أصلا، فلا يدخل في مسمى الشيء حتى يقال: إن الله عليه قدير، فإنه سبحانه على كل شيء قدير، وهذا ليس بشيء أصلا. نعم، صورة المعدوم الثابتة في العلم قد تنازع الناس في [ ص: 327 ] جواز رؤيتها، وتنازعوا كذلك في جواز رؤية الله للمعدومات لثبوتها في علمه، والنزاع فيها مشهور.

التالي السابق


الخدمات العلمية