الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وكذلك قوله: " الأمر المعلوم بالبديهة لا يجوز أن يكون علة وصف استدلالي". إنما هو العلة التي توجب العلم بالحكم، ولكن يجوز أن يكون المؤثر فيما أدركه الحس ما لم [ ص: 369 ] يذكره الحس، ولكن هذا الانقسام ليس من الأمور الحسية بل من الأحكام العقلية، والعقل لا يحصر شيئا قبل الإحاطة بأفراده ولا تلازم بين شيئين قبل العلم بوجه الملازمة، فإن لم يكن الوجود هو المقتضي لهذا الحصر والتقسيم ولهذه الملازمة لم يجز حكم الذهن بذلك حتى يعلم دليلا يدله على هذا الحصر والتقسيم وهذه الملازمة، ولا يجوز أن يكون الحكم بديهيا ودليله نظريا استدلاليا، ومن يدبر عقله علم أنه يحكم بهذا التقسيم وهذا اللزوم بمجرد العلم بالوجود قبل العلم بالحدوث وغيره، فإن لم يكن الوجود مقتضيا له لم يكن له أن يحكم إلا بما أحسه، وهذان: هذا مباين لهذا وهذا محايث له، أما أن يحكم حكما عاما على جميع الموجودات: إما أن يكون محايثا وإما أن يكون مباينا. قبل علمه بتساويهما في ذلك فهو حكم بلا أصل، وهذا الكلام يحتاج إلى تقرير أن العلة الخارجة هي العلة الذهنية، وإلا فيمكن النزاع في ذلك.

وأما قوله في السؤال السابع: لو كان الوجود واحدا في الشاهد والغائب ليس إلا بالاشتراك اللفظي، وهذا لا يمكن إلا بأن يكون الباري مثلا للمحدثات أو يكون الوجود زائدا [ ص: 370 ] على الماهية، والمخالفون لا يقولون بواحد منهما".

فيقال: مثل هذا الكلام تكرر في تصانيف هذا الرجل وهو غلط عظيم في أظهر الأمور وأول الأمور المعقولة من العلم الإلهي والعلم الكلي وهو وجود الحق ووجود الخلق، ولهذا يغلط به من نقل مذاهب الناس.

فإن مذهب عامة الناس بل عامة الخلائق من الصفاتية كالأشعرية والكرامية وغيرهم أن الوجود ليس مقولا بالاشتراك اللفظي فقط، وكذلك سائر أسماء الله التي سمي بها وقد يكون لخلقه اسم كذلك مثل الحي والعليم والقدير فإن [ ص: 371 ] هذه ليست مقولة بالاشتراك اللفظي، فقط بل بالتواطؤ، وهي أيضا مشككة، فإن معانيها في حق الله تعالى أولى، وهي حقيقة فيهما، ومع ذلك فلا يقولون: إن ما يستحقه الله تعالى من هذه الأسماء إذا سمي بها مثل ما يستحقه غيره، ولا أنه في وجوده وحياته وعلمه وقدرته مثلا لخلقه، ولا يقولون أيضا: إن له أو لغيره في الخارج وجودا غير حقيقتهم الموجودة في الخارج، بل اللفظ يدل على قدر مشترك، إذ أطلق وجرد عن الخصائص التي تميز أحدهما وهو لا يستعمل كذلك في أسماء الله فقط، ولا هو موضوعا في اللغة كذلك، وإنما يذكر كذلك في مواضع تجرد عن الخصائص، كما تجرد في المناظرة لأمور يحتاج إليها فيقدر تجريده عن الخصائص تقديرا كما يقدر أشياء لم توجد، وهو حينئذ دال على قدر مشترك بين المسلمين، ولكن ذلك المشترك ليس مجموع حقيقة كل منهما الموجودة في الخارج، فإن لفظ الموجود إذا جرد يدل على الموجود المطلق لم يكن الوجود المطلق حقيقة إلا في الذهن، وأما [ ص: 372 ] الوجود الخارجي فوجود كل موجود معين مميز عن الآخر مختص به، وذلك كالجسم المطلق والحيوان المطلق والإنسان المطلق.

وقد تقدم غير مرة أن حقيقة ذلك أن هذه الحيوانية الخارجية المعينة تشبه هذه الحيوانية، وهذه الإنسانية الخارجية تشبه هذه الإنسانية، فبينهما مشابهة من هذا الوجه، وإن كانت بينهما مخالفة من وجوه أخرى. وإذا قيل: هذا موجود، وهذا موجود، ففيه إثبات أصل الوجود والثبوت والكون لكل منهما، وأن ما لهذا يشبه ما لهذا من هذا الوجه، وهذا المعنى الذي اشتركا فيه واشتبها في غاية البعد عن حقيقة كل منهما، كما أن حقيقة كل منهما يكون في غاية البعد عن حقيقة الآخر، فوجود أحدهما في الخارج هو عين حقيقته. فإذا قيل: إن سائر الحقائق والماهيات تشاركها في مسمى الحقيقة والماهية أو تشبهها في ذلك كان هذا [ ص: 373 ] الشبه البعيد في غاية البعد عن الحقيقتين، ولكن الأمور العظيمة الاختلاف بالحقيقة قد تشتبه في أمر ما، وهو الذي اشتركت فيه. وأعم هذه الأمور هذا الوجود والثبوت والكون، فمن كان نظره في هذا كان نظره في أبعد الأشياء عن حقيقة الرب.

وكثير من هؤلاء يعتقد أنه قد أدرك حقيقته، أو أنه لا حقيقة له إلا ذلك، وهؤلاء من أعظم الخلق تمثيلا لربهم بكل شيء، وتشبيها له بكل شيء، وقد جعلوا كل شيء ندا له وكفوا، حيث جعلوا حقيقته هي الوجود المطلق، وذلك يثبت لكل موجود، فهم أعظم الخلق إشراكا بالله، ومن هنا قال الاتحادية منهم إنه وجود كل شيء، وأنه وجود الموجودات كلها ونحو ذلك، مما هو من أعظم الإشراك والتعطيل.

وأصل هذا أن الاشتراك أو الاشتباه في أمر ما لمسمى الوجود أو الحي أو غير ذلك لا يقتضي التماثل بوجه من الوجوه، بل يقتضي نوع اشتباه، وقد يكون بعيدا عن التماثل، وهذا الرازي يظن كثيرا أن الاشتراك في شيء هو التماثل، فيحكم على [ ص: 374 ] المشتبهين في شيء بحكم المتماثلين، ثم إنه في موضع آخر يناقض ذلك حتى يجعل الأمور المتماثلة في الحكم لا تتماثل في العلة، والأمور المتماثلة في العلة لا تتماثل في الحكم، إذ هو متناقض في عامة كلامه، ثم إن هؤلاء المتفلسفة والمتكلمة والمتصوفة وسائر الملاحدة من القرامطة وغيرهم الذين يقولون: حقيقته هي [ ص: 375 ] الوجود المحض أو المطلق أو نحو ذلك، يزعمون أنهم أبعد الخلق عن التشبيه، وأنهم هم الموحدون المحققون للتوحيد حتى ينفوا الصفات والأسماء نفيا منهم. زعموا الشبيه وهم أعظم الخلق تشبيها وتمثيلا وإشراكا، وجعلوا أندادا لله مع ما هم عليه من التعطيل، وأبعد الخلق عن أن يوحدوا الله تعالى بوحدانيته التي انفرد بها عن سائر مخلوقاته.

فإنهم جعلوا حقيقته الوجود المطلق، فهذا القدر ثابت لكل موجودة، فقد جعلوا حقيقته ما هو ثابت لكل شيء، فقد جعلوا حقيقة الله تشركه فيها البعوضة والنملة بل الكلب والخنزير، وقد يصرحون بأن وجود الكلب والخنزير عين وجوده، وهذا من أغلظ الإشراك والكفر برب العالمين، وهو تعطيل الله إذ لا وجود للوجود المطلق إلا في المعين، فإذا لم تثبت له حقيقة موجودة مختصة به منفصلة عن الموجودات لزم [ ص: 376 ] تعطيله، ثم إن حقيقته التي اختص بها وامتاز بها عن خلقه لا يثبتونها، وبها وجبت له الوحدانية.

التالي السابق


الخدمات العلمية