الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما الحجة التي ذكرها عن ابن الهيصم فلم يذكر ألفاظها، لكن ذكر أنه نظمها أحسن من نظمه، ونحن في جميع ما نورده نحكي ألفاظ المحتجين بعينها، فإن التصرف في ذلك قد يدخله خروج عن الصدق والعدل: إما عمدا وإما خطأ، فإن الإنسان إن لم يتعمد أن يلوي لسانه بالكذب أو يكتم بعض ما يقوله غيره، لكن المذهب الذي يقصد الإنسان إفساده لا يكون في قلبه من المحبة له ما يدعوه إلى صوغ أدلته على الوجه الأحسن حتى ينظمها نظما ينتصر به، فكيف إذا كان مبغضا [ ص: 308 ] لذلك؟! والله أعلم بحقيقة ما قاله ابن الهيصم وما نقله هذا عنه، لكن نحن نتكلم على ما وجدناه، مع العلم بأن الكرامية فيهم نوع بدعة في مسألة الإيمان وغيرها، كما في الأشعرية أيضا بدعة، لكن المقصود في هذا المقام ذكر كلامهم وكلام النفاة ولا ريب أن أئمة الأشعرية وهم الذين كانوا أهل العراق كأبي الحسن الكبير وأبي الحسن الباهلي وأبي عبد الله بن [ ص: 309 ] مجاهد وصاحبه القاضي أبي بكر وأبي علي بن شاذان ونحوهم: لم يكونوا في النفي كأشعرية خراسان مثل أبي بكر بن فورك ونحوه، بل زاد أولئك في النفي أشياء على مذهب أبي الحسن ونقصوا من إثباته أشياء، ولهذا يوجد في كلام أبي الحسن الأشعري وكلام أبي سعيد بن كلاب الذي ذكره أبو بكر بن فورك فيما جمعه من كلامهما وبيان مذهبهما أشياء تخالف [ ص: 310 ] ما انتصر له ابن فورك في مواضع وهذه الحجة القياسية التي ذكرها عن ابن الهيصم هي [ ص: 311 ] مأخوذة من حجة أهل الإثبات في مسألة رؤية الله، وأنهم كانوا يحتجون على جواز رؤية الله: " بأن الله قادر على أن يرينا نفسه لأنه موجود وما لم تمكن رؤيته لا يكون إلا معدوما.. "، وهذه الحجة كانوا يتكلمون فيها كنحو كلام أهل الإثبات في مسألة العلو: تارة يحتجون فيها بالعلم الضروري بأن الله تعالى قادر على ذلك، وتارة يثبتون ذلك بالقياس، فإن الرؤية مما يشترك فيها الجواهر والأعراض فيكون عليها أمر مشترك بينهما، ولا مشترك إلا الوجود، والحدوث لا يكون علة فثبت أن المصحح للرؤية هو الوجود.

وهذه الطريقة القياسية مشهورة عن أبي الحسن الأشعري، وللناس عليها اعتراضات معروفة كما ذكر ذلك الشهرستاني وغيره. ولذلك عدل طائفة من أتباعه كالقاضي [ ص: 312 ] أبي بكر إلى أن أثبتوا إمكان الرؤية بالسمع، كما أن وقوعها معلوم بالسمع بلا نزاع، وأبو عبد الله الرازي قد ذكر طريقة الأشعري هذه في الرؤية في نهايته، وذكر ما فيها من القوادح التي تظهر معها وهاها.

وإذا علم ذلك فينبغي أن يعلم الأمران: أحدهما أن الطريقة التي سلكها أهل الإثبات في مسألة العلو بدعوة الضرورة تارة، وبالقياس الذي احتج به ابن الهيصم وغيره تارة أصح من الطريقة التي يسلكونها في مسألة الرؤية بدعوى الضرورة تارة، وبالقياس أخرى، كما قد ذكرنا فيما قبل: أن العلم بأن الله تعالى فوق خلقه أعرف في الفطرة وأشهر في الشريعة وأعظم استقرارا عند سلف الأمة وأئمتها من العلم بأنه يرى، وأن الجهمية كانوا يكتمون إنكار ذلك ويتظاهرون بإنكار الرؤية ونحوها ليتوسلوا بما يظهرونه من إنكار الرؤية والقول بخلق القرآن على ما يكتمونه من إنكار وجود الله فوق العرش، وكان أئمة السلف يعلمون ذلك منهم، فيعرفونهم في لحن القول، ويستدلون بما [ ص: 313 ] أظهروه على ما أسروه لعلمهم بأصل كلامهم، وأنهم إنما أنكروا رؤيته وأنكروا أنه يتكلم حقيقة، لأن رؤيته وكلامه مستلزم لوجوده فوق العالم، فإذا سلموا الكلام والرؤية وغيرهما لزمهم تسليم أنه فوق العرش إذا أنكروا ذلك، ووافقهم عليه من وافقهم، توسلوا بذلك لإنكار علوه على العرش وغير ذلك إذ يقال: لو كان على العرش لجازت رؤيته، ولكان متكلما، وما لا يجوز أن يرى يمتنع أن يكون فوق العرش.

التالي السابق


الخدمات العلمية