الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
والمقصود هنا: أنهم إذا لم يثبتوا إلا المباينة بالحقيقة أو بالزمان لم يكن العلم بهذه المباينة مانعا من جواز المحايثة عليه؛ لأن العرض والجوهر بينهما تباين بالحقيقة وبالزمان مع [ ص: 12 ] تحايثهما، وهذا قد اتفقوا على نفيه، وقد ذكروا أنهم يعلمون بالاضطرار أن بين الباري تعالى وبين العالم من التباين ما ليس بين الجوهر والعرض الحال فيه، وهذا بين؛ إذ لولا زيادة التباين لجاز أن يكون العالم كالعرض في الخالق والخالق جواهر قائمة بنفسها، أو يكون الخالق كالعرض القائم بالجوهر.

ومعلوم: أن هذا أشد استحالة باتفاق العقلاء؛ فإن الباري قائم بنفسه، وهو المقيم لكل قائم، فضلا عن أن يكون كالعرض في الجوهر، والعالم جواهر قائمة بأنفسها، فثبت بذلك أن مباينته للعالم ليست بمجرد الحقيقة والزمان، وإذا ثبت ذلك فالمقدمة الثانية: وهو أن المتباينين اللذين ليس تباينهما بمجرد الحقيقة والزمان فلابد أن يكونا متباينين بالمكان، [و] قد تقدمت . وتقدم ما ذكر وسلم فيها من العلم الضروري.

إذا تبين ما ذكره من حجتهم؛ فقوله في الجواب إن المحل مباين للحال في الحقيقة والزمان، ولكن أحدهما حال في الآخر، والآخر محل له، ويشتركان أيضا في الحدوث والإمكان والحاجة إلى المؤثر كلام صحيح؛ لكن مضمونهما أنهما مع التباين بالحقيقة والزمان متحايثان مشتركان في الحيز وفي أمور [ ص: 13 ] أخرى: وهي الحدوث والإمكان والحاجة إلى المؤثر، وهذا الكلام أنهما مع هذا التباين متحايثان ومشتركان، ومجتمعان في أمور أخرى: فتكون المباينة بينهما دون المباينة بين العالم والباري، وهكذا قال القوم إنا نعلم بالضرورة أن بين الباري سبحانه وبين العالم من التباين ما ليس بين الجوهر الذي هو المحل، وبين ما حل فيه فما ذكره تقرير لذلك. وقوله: وأما الباري كما خالف العالم في الحقيقة وفي الزمان فليس حالا فيه ولا محلا له ولا بينهما مشاركة في الحدوث والإمكان والحاجة، فلما كان كذلك كان الاختلاف بين الباري تعالى وبين العالم أتم من الاختلاف بين الحال والمحل.

فيقال له: هذا توكيد لما قالوه؛ لأنهم ذكروا أن مباينة الباري تعالى أتم؛ فإنه غير محايث؛ إذ ليس هو حالا في العالم ولا محلا له، بخلاف الجوهر والعرض.

وأما عدم المشاركة في الحدوث فيعود إلى المباينة بالزمان؛ فإن القديم قبل المحدث، وإلى المباينة بالحقيقة؛ فإن حقيقة القديم مخالفة لحقيقة المحدث، وأما عدم المشاركة [ ص: 14 ] في الإمكان والحاجة إلى المؤثر فيعود إلى المباينة بالحقيقة؛ فإن الواجب بنفسه الغني عن غيره حقيقته مخالفة لحقيقة الممكن في نفسه المفتقر إلى غيره، فهذا الذي ذكره مضمونه أن مباينة الباري أتم من مباينة الجوهر للعرض؛ لأنه مع المخالفة بالحقيقة وبالزمان غير محايث.

وهكذا قال القوم: إن مباينة العالم أزيد من مباينة الجوهر للعرض، فهذا الكلام تقرير لمقدمة من مقدمات دليلهم.

التالي السابق


الخدمات العلمية