الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
الوجه السابع: أن دعواه أن ظاهر القرآن أن لله أعينا كثيرة وأيديا كثيرة: باطل، وذلك أنه وإن كان قد قال: تجري بأعيننا [القمر: 14] وقال: واصنع الفلك بأعيننا ووحينا [هود: 37] وقال: واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا [الطور: 48] وقال: أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا [يس: 71] فقد قال في قصة موسى: ولتصنع على عيني إذ تمشي أختك فتقول هل أدلكم على من يكفله [طه: 39 ، 40] فقد جاء هذا بلفظ المفرد في موضعين.

فلم يكن دعواه الظهور في معنى الكثرة، لكونه جاء بلفظ الجمع بأولى من دعوى غيره الظهور في معنى الإفراد، لكونه قد [ ص: 475 ] جاء بلفظ المفرد في موضعين، بل قد ادعى الأشعري فيما اختاره ونقله عن أهل السنة والحديث هو وطوائف معه إثبات العينين لأن الحديث ورد بذلك وفيه جمع بين النصين [ ص: 476 ] كما في لفظ اليد بل لو قال قائل: الظاهر في العين للمفرد أو المثنى دون المجموع لتوجه قوله، وذلك أن قوله: بأعيننا في الموضعين مضاف إلى ضمير جمع، والمراد به الله وحده بلا نزاع.

ومثل هذا كثير في القرآن؛ يسمي الرب نفسه من الأسماء المضمرة بصيغة الجمع على سبيل التعظيم لنفسه كقوله: إنا فتحنا لك فتحا مبينا [الفتح: 1] وقوله: نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا [الزخرف: 32] فلما كان المضاف إليه لفظه لفظ الجمع جاء المضاف كذلك، فقيل: بأعيننا وفي قصة موسى لما أفرد المضاف إليه أفرد المضاف: فقيل: ولتصنع على عيني [طه: 39].

ومعلوم أن هذا هو الأصل والحقيقة، فإن الله واحد سبحانه، ومن احتج بما ذكره الله تعالى عن نفسه بلفظ الجمع على العدد فهو ممن تمسك بالمتشابه وترك المحكم، كما فعل [ ص: 477 ] نصارى نجران الذين قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم وناظروه في أمر المسيح، وذكروا أن صدر آل عمران أنزلت بسببهم إذ عامته في ذكر المسيح واتباعهم للمتشابه أن قالوا: ألم يقل في كتابك "إنا" و"نحن" فهذا يدل على [أن] الآلهة ثلاثة. فتركوا المحكم في كتاب الله كقوله: وإلهكم إله واحد [البقرة: 163] وقوله: لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة وما من إله إلا إله واحد [المائدة: 73] واتبعوا المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله.

فهكذا [قد يقال فيمن عمد إلى لفظ (أعيننا) وترك لفظ (عيني) أنه اتبع المتشابه دون المحكم ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله]. وقد ثبت في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يا عائشة، إذا رأيت الذين يتبعون ما تشابه منه [ ص: 478 ] فأولئك الذين سماهم الله فاحذروهم.

وهذا الكلام يقال في لفظ (أيدينا) مع قوله: ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي [ص: 75] وقوله: بل يداه مبسوطتان [المائدة: 64] فإن صيغة المضاف إليه هناك صيغة جمع بخلاف صيغة المضاف إليه في بقية الآيات، فجاء على لفظ المضاف إليه.

ومما يوضح الأمر في ذلك أن من لغة العرب الظاهرة التي نزل بها القرآن استعمال لفظ الجمع في موضع التثنية في المضاف إذا كان متصلا بالمضاف إليه، والمعنى [ظاهر] كقوله تعالى: إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وإن تظاهرا عليه [التحريم: 4] وليس لكل منهما إلا قلب، فالمعنى: قلباكما؛ لكن النطق بلفظ الجمع أسهل، والمعنى معروف، أنه ليس لكل منهما إلا قلب.

وكذلك قوله: والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما [المائدة: 38] والمعنى فاقطعوا أيمانهما / إذ لا يقطع من كل [ ص: 479 ] واحد إلا يده اليمنى، لكن وضع الجمع موضع التثنية لسهولة الخطاب وظهور المراد، وفي قراءة عبد الله: فاقطعوا أيمانهما حتى أن التعبير في مثل هذا بلفظ التثنية عدول عن أفصح الكلام وإن كان جائزا، كما قال: "ظهراهما مثل ظهور الترسين".

وقد جاء مثل الأول في المضاف المنفصل وهو قليل كقوله: "وضعا رحالهما".

[ ص: 480 ] وإذا كان كذلك قيل: لفظ "بأعيننا" ولفظ "أيدينا" مع كون المضاف إليه ضمير جمع أولى بالحسن مما إذا كان المضاف [إليه] ضمير تثنية، فإذا كان من لغتهم ترك استحسان قلباكما ويديهما فلأن يكون في لغتهم ترك استحسان بعيننا، أو بعينينا ومما عملت يدنا أو يدانا أولى وأحرى، ويكون المضاف مفردا أو مثنى، والمضاف إليه مجموعا، وهذا خروج عن المطابقة وعدول عن الحسن أعظم من ذلك، بل هنا يقبح مثل هذا اللفظ؛ فإنه إذا عبر عن نفسه بصيغة الجمع تعظيما وتفخيما فالتعبير مع ذلك عما أضيف بما لا تعظيم فيه تناقض في البيان.

وتناسب الكلام يوضح ذلك أنه في الصورة المستشهد بها كقوله: صغت قلوبكما و فاقطعوا أيديهما يعلل بأنـ [ـه] حسن العدول عن المثنى بأن صيغة الجمع واحدة معربة [ ص: 481 ] بالحروف، فهي أخف من صيغة التثنية التي تختلف في النصب وفي الرفع والخفض، إذ يحتاج أن يقول: صيغ قلباهما، وقلب الله قلبيهما، وزين الإيمان في قلبيهما. وعلى المعروف يقال: صغت قلوبهما، وقلب الله قلوبهما، وزين الإيمان في قلوبهما، فهذا أخف وأسهل وأحسن. فإذا قال: مما عملت يدانا، وخلقنا بيدينا، وبسطنا بيدينا كان هذا بخلاف [ما لو قيل: عملت أيدينا، وخلقنا بأيدينا، وبسطنا أيدينا] كان هذا أخف وأسهل وأحسن من الأول؛ فكيف وفي هذه الصور، المضاف إليه لفظه لفظ الجمع فإذا كانوا يعدلون عن إضافة المثنى إلى المثنى فيجعلون المضاف بلفظ الجمع: فلأن يعدلوا عن إضافة المثنى إلى الجمع، ويجعلوا المضاف بلفظ الجمع أولى وأحرى.

التالي السابق


الخدمات العلمية