الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
وأيضا فالمعبود أعظم من العابد، وهذا معلوم في بدائه العقول؛ لا سيما وهو سبحانه القدوس السلام. والقدوس مأخوذ من التقديس وهو التطهير، ومنه سمي القدوس قدوسا. والجهمية تدعي أنها تقدسه بنفي الصفات، ويسمون كلامهم [ ص: 86 ] "تأسيس التقديس"/ ومنهم من يقول بمخالطته للنجاسات، والباقون يلتزمون ذلك، فهم منجسون لا مقدسون! ومن أنكر الأمور في بدائه العقول أن يكون العابد واجبا عليه التنزيه عن النجاسات التي تخرج منه، مع أن المعبود مختلط بها ملاصق لها. وإذا كان العلم بأن الرب سبحانه أحق بالتنزيه والتعظيم من العبد، والمعبود أحق بذلك من العابد، كان هذا القياس وأمثاله من أظهر الأقيسة في بديهة العقول؛ بل قد قال تعالى لخليله: وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود [الحج: 26].

فإذا أمر عبده بتطهير بيته -الذي يطاف به، ويصلى فيه وإليه، ويعكف عنده - من النجاسة: ألم يكن هو أحق بالطيب والطهارة والنزاهة من بيته، وبدن عبده وثيابه؟!

ولهذا كان هؤلاء الاتحادية والحلولية يصفونه بما توصف به الأجسام المذمومة، ويصرحون بذلك، وهؤلاء من أعظم الناس [ ص: 87 ] كفرا وشتما لله وسبا لله؛ وسبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا.

وحصل بما ذكره الأئمة أن هؤلاء الجهمية أصل قولهم الذي به يموهون على الناس إنما هو التنزيه، ويسمون أنفسهم "المنزهون" وهم أبعد الخلق عن تنزيه الله، وأقرب الناس إلى تنجيس تقديسه، وهذا يظهر بوجوه كثيرة؛ لكن المذكور هنا كونهم يقولون: إنه في كل مكان من الأمكنة النجسة القذرة؛ فأي تنزيه وتقديس يكون مع جعلهم له في النجاسات والقاذورات والكلاب والخنازير؛ بل وتصريحهم بذلك، حتى حدثني من شهد أحذق محققيهم التلمساني وآخر من [ ص: 88 ] طواغيتهم وقد اجتاز بكلب جرب ميت، فقال ذلك للتلمساني: وهذا الكلب أيضا ذلك؟ فقال: أو ثم شيء خارج عن الذات؟ وهذا التلمساني هو وسائر الاتحادية كابن عربي الطائي صاحب "الفصوص" وغيره وابن سبعين، وابن الفارض والقونوي صاحب ابن عربي شيخ التلمساني وسعيد [ ص: 89 ] الفرغاني إنما يدعون الكشف والشهود لما يخبرون عنه، وأن تحقيقهم لا يوجد بالنظر والقياس والبحث، وإنما هو شهود الحقائق وكشفها، ويقولون: ثبت عندنا في الكشف ما يناقض [ ص: 90 ] صريح العقل. ويقولون لمن يسلكونه: لابد أن يجمع بين النقيضين، وأن يخالف العقل والنقل. ويقولون: القرآن كله شرك، وإنما التوحيد في كلامنا. ويقولون: لا فرق عندنا بين الأخوات والبنات والزوجات؛ فإن الوجود واحد؛ لكن هؤلاء المحجوبون، قالوا حرام. فقلنا: حرام عليكم. ومن شعر هذا التلمساني قبحه الله:


يا عاذلي أنت تنهاني وتأمرني والوجد أصدق نهاء وأمار     فإن أطعك وأعصي الوجد عدت عمي
عن العيان إلى أوهام أخبار     وعين ما أنت تدعوني إليه إذا
حققته تره المنهي يا جاري



يقول: أنت تدعوني إلى [أن] أعبد الله ولا أعبد غيره، وما ثم غيره؛ بل هو الذي تظنه غيرا. وقد / بسطت الكلام على ذلك في غير هذا الموضع.

[ ص: 91 ] أصل ذلك أن علم الإنسان كله إنما يحصل بطريق الإحساس والمشاهدة الباطنة والظاهرة، أو بطريق القياس والاعتبار العقلي، أو بطريق السمع والخبر والكلام، كما قال تعالى: إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولا [الإسراء: 36] والعبد الصادق يحصل له من المشاهدة الباطنة ما ينكشف له به أمور كانت مغطاة عنه، ويفهم من كلام الله ورسوله والسلف معاني يشهدها لم يكن قبل ذلك يشهدها؛ بل يظهر له قوله تعالى: سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ثم قال: أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد [فصلت: 53] أي: أو لم يكف بشهادته وعلمه التي أخبرهم عنها في كتابه؟

وهؤلاء المنافقون المرتدون الزنادقة ومن وقع في بعض ضلالاتهم من الغالطين الضالين هم في الشهود الذي يحصل لهم، ويجعلونه من جنس شهود المؤمنين، مثل ما هم في المخاطبة التي تقع لهم، ويجعلونها من جنس مخاطبة المؤمنين، التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم: "إنه قد كان في الأمم محدثون، فإن يكن في أمتي أحد فعمر" وقد رواه البخاري في صحيحه من [ ص: 92 ] حديث إبراهيم بن سعد عن أبيه عن أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: قال البخاري: ورواه زكريا ابن أبي زائدة، عن سعد، عن أبي سلمة بن عبد الرحمن، عن عائشة، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: "قد كان يكون في الأمم قبلكم محدثون، فإن يكن في أمتي منهم أحد، فإن عمر بن الخطاب منهم" قال ابن وهب: تفسير "محدثون" ملهمون. قال [ ص: 93 ] أبو مسعود الدمشقي الصواب من حديث إبراهيم بن سعد، عن أبي هريرة كما ذكره البخاري. وأما حديث ابن عجلان عن سعد، فإنه يقول فيه عن عائشة، [كذلك رواه عنه الناس، ولا أعلم أحدا تابع ابن وهب عن إبراهيم بن سعد في قوله عن عائشة].

[ ص: 94 ] والمخاطبة التي تقع لهؤلاء المنافقين والغالطين والمتشبهين بالمؤمنين هي من الشياطين التي تنزل على أمثالهم من كل أفاك أثيم، ومن حديث النفس؛ ولهذا يكثرون من الشعر والكهانة التي يقترن بأهلها الشياطين كثيرا، قالوا لابن عمر ولابن عباس: إن المختار يزعم أنه ينزل عليه، فقال: صدق: هل أنبئكم على من تنزل الشياطين [الشعراء: 221] وقالوا للآخر: إنه يزعم أنه يوحى إليه، فقال: صدق: وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم [الأنعام: 121] فلهم وحي وتنزيل؛ ولكن من الشياطين، كما تنزل على أشباههم من السحرة والكهان، وبينهم قدر مشترك في كثير من الأمور.

التالي السابق


الخدمات العلمية