الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
الوجه الرابع: أنه من المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أنه يجب على الناس [رد] ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول، فإن الله أرسل رسله، وأنزل كتبه، بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه كما قال تعالى: لقد أرسلنا رسلنا بالبينات وأنزلنا معهم الكتاب والميزان ليقوم الناس بالقسط [الحديد: 25] وقال تعالى: إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله [النساء: 105] وقال تعالى: [ ص: 385 ] كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه [البقرة: 213] وقال تعالى: فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر [النساء: 59].

وهذا عام في جميع الأشياء، لا سيما باب أسماء الله وصفاته، فإن الاعتصام في ذلك بالكتاب والسنة هو من أعظم أصول الإيمان؛ فإن الله قد ذم الذين يلحدون في أسمائه وآياته ويجادلون فيه بغير علم، والذين يجادلون بغير كتاب منزل من الله، ونهى عن ضرب الأمثال له، فقال: ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها وذروا الذين يلحدون في أسمائه سيجزون ما كانوا يعملون [الأعراف: 180] وقال: ويرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء وهم يجادلون في الله وهو شديد المحال [الرعد: 13]، وقد روي أنها نزلت فيمن جادل في الله من أي جنس هو من أجناس المخلوقات، وقال: الذين يجادلون في آيات الله بغير سلطان أتاهم كبر مقتا عند الله وعند الذين آمنوا [ ص: 386 ] [غافر: 35]، وهذا في كل من جادل في الله بغير كتاب منزل من السماء، فإن الكتاب المنزل هو السلطان، كما قال تعالى: أم أنزلنا عليهم سلطانا فهو يتكلم بما كانوا به يشركون [الروم: 35] وقال تعالى: أم لكم سلطان مبين فأتوا بكتابكم إن كنتم صادقين [الصافات: 156، 157] وقال تعالى: أم لهم سلم يستمعون فيه فليأت مستمعهم بسلطان مبين [الطور: 38] وإذا كان كذلك فالواجب أن يجعل ما بعث الله به رسله من الأسماء والكلمات هي الأصل، والرد عند التنازع في النفي والإثبات.

وأما سائر ما يتكلم الناس به من نفي وإثبات فيرد إلى ذلك، فما وافقه فهو الحق، وما خالفه فهو الباطل، وإذا كانت الألفاظ مجملة تحتمل ما يوافق كتاب الله وما يخالفه لم تقبل مطلقا ولم ترد مطلقا، بل يقبل منها ما وافق كتاب الله ويرد ما خالفه، والمنافق المذموم الذي ذمه الله ورسوله هو من أظهر الإيمان بالكتاب والرسول وموالاة المؤمنين وأبطن نقيض ذلك، فأما من استعمل التقية مع غير كتاب الله ورسوله وأهل الإيمان فليس هو هذا المنافق.

وإذا كان كذلك فالجهمية -نفاة الصفات- تنفي الجسم [ ص: 387 ] وملازمه، نفاقهم في الإيمان بالله والرسول، فإنهم يظهرون الإيمان بالقرآن وبما جاء فيه من أسماء الله وصفاته التي هي من آياته، وهم عند التحقيق غير مؤمنين بذلك، بل هم منافقون في كثير من ذلك، يحرفون الكلم عن مواضعه، ويلحدون في أسماء الله وصفاته/ وذلك مضموم إلى منافقتهم في المعقولات حيث يبغون اتباع المعقول، وهم من أعظم الخلق جحودا للمعقولات؛ ففيهم من السفسطة في العقليات والقرمطة والنفاق في الشرعيات مما لا ينضبط هنا.

وهذا من أعظم الأمور دناة وبطلانا في العقل والدين بإجماع المسلمين.

التالي السابق


الخدمات العلمية