الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
وأما ما ذكره الرازي عن منازعيه من التقية فغايتهم أنهم استعملوا التقية مع من يقول إنه ليس بجسم، وغاية هذا أن يكون هو المصيب وهم المخطئون؛ إذ ليس قوله مأثورا عن الله ولا عن رسوله ولا عن أحد من سلف الأمة وأئمتها، فإنه ليس في هؤلاء من نفى ما ينفيه هؤلاء بلفظ الجسم وملازمه ولا نفى ما يسمونه تركيبا وانقساما وتأليفا، وإذا كانت هذه المعاني لا يوجد نفيها عن الله لا بألفاظهم ولا بألفاظ أخرى في كلام الله [ ص: 388 ] ولا رسوله ولا كلام سلف الأمة وأئمتها، وإنما غاية أحدهم أن يستنبط ذلك كما ذكره الرازي في الأدلة السمعية، ومعلوم لمن تدبر تلك الأدلة أنها لا تفيد ظنا ضعيفا فضلا عن ظن قوي فضلا عن العلم، بل قد بينا فيما تقدم أن كل دليل ذكره فإنه أدل على نقيض مطلوبه منه على مطلوبه، وإذا كان الأمر كذلك، وقدرنا أن نفي هذه المعاني حق، كان مستعمل التقية والخوف مع هؤلاء النفاة أحسن حالا وأعظم قدرا عند أهل العلم والإيمان من حزب الرازي النفاة فيما يستعملونه من التقية والخوف، فإن أولئك يستعملونها مع أهل العلم والإيمان، وهو حال المنافقين الذين ذكرهم الله وذمهم في القرآن فيما شاء الله من المواضع، وهذا بين ظاهر؛ فإن خطأ هؤلاء إذا ثبت أنه خطأ هو خطأ فيما يقال إنه معقول، ليس خطأ فيما جاء به الرسول، وتقاته مع من يدعي العقليات ليس مع أهل الإيمان والقرآن، وأين من يتقي من يكون مصيبا من العقلاء والملوك إلى من يتقي وينافق الأنبياء والمرسلين وخلفاءهم الراشدين؟ هذا كله إذا قدر خطؤه حيث كان في الباطن يعتقد ما هو خطأ، وأما إن كان ما يقوله الباطن صوابا فيكون قولهم بألسنتهم خلاف ما في [ ص: 389 ] قلوبهم من غير إكراه ضعفا في إيمانهم.

وجماع القول أنه إذا قدر أنهم استعملوا التقية فأظهروا نفي هذه الأمور مع اعتقاد ثبوتها؛ فإما أن يكونوا في هذا الاعتقاد مخطئين أو مصيبين، فإن كانوا مخطئين كان هذا كما تقدم أنه من جنس مخالفة الملوك والعقلاء فيما هم فيه مصيبون، ومخالفتهم من جنس المنافقين لأنبياء الله والمرسلين، وعباد [الله] أهل العلم والإيمان، فإذا كانوا مصيبين في هذا الاعتقاد كانوا بمنزلة مؤمن كتم إيمانه وأظهر خلاف ما يعتقده من الإيمان، فهو مؤمن بقلبه معتقد متكلم بكلمة الخطأ أو الكفر خوفا، وهذا سائغ في الدين، قال تعالى: من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان [النحل: 106] وقال تعالى: لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شيء إلا أن تتقوا منهم تقاة [آل عمران: 28] وحيث لا يكون سائغا فالتكلم بذلك مع اعتقاده الإيمان لنوع رغبة أو رهبة على أي وجه كان هو خير من المنافق الذي يتكلم بقول أهل الإيمان ويبطن خلاف ذلك؛ فأولئك النفاة منافقون، وهذا مذنب ذنبا دون ذنب أولئك بكثير.

التالي السابق


الخدمات العلمية