الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية

ابن تيمية - أحمد بن عبد الحليم بن تيمية الحراني

صفحة جزء
الوجه الثاني: أنهم اعتمدوا على أنه لا يحدث شيئا حتى يحدث أمر من الأمور فلا يحدث... سواه حتى يحدث فيه شيء أو يتغير.

وهذا المقام للناس فيه نزاع مشهور بين الأولين والآخرين، فطوائف كثيرة من متكلمي المعتزلة والأشعرية والفقهاء وأهل الحديث والصوفية وغيرهم منعوهم هذا، وقالوا: هل يحدث عنه شيء بعد أن لم يحدث من غير حدوث شيء في نفسه، وطوائف كثيرة من المتكلمين من الشيعة والمرجئة والكرامية وأهل [ ص: 239 ] الحديث والفقهاء والصوفية سلموا ذلك ونحن ننزل إلى التسليم فنقول: هب أنه يمتنع أن يحدث شيئا حتى يحدث فيه شيء، فأنتم لم تقيموا حجة على امتناع أن يحدث فيه شيء إلا أن قلتم القول في هذا الحادث كالقول في العوالم، وهذا الحادث لا يحدث إن لم يحدث سبب يقتضي حدوثه، فنقول: هب أن الأمر كذلك، فلم قلتم إنه لا يحدث لنفسه عملا وحركة يحدث به ذلك المفعول؟

وهذا قول طوائف من أهل الكلام والفقه وجمهور أهل الحديث والتصوف وغيرهم، وهو قول طوائف من الأوائل [ ص: 240 ] والأواخر حتى قال أوحدهم في زمانه أبو البركات صاحب المعتبر: إلهية الباري لم لا تتم إلا مع هذا القول؟ وقد قال الرازي: إن هذا يلزم جميع الطوائف القول به، وأنه ليس في الأدلة العقلية ما ينفيه؛ وليس المقصود هنا تقريره؛ لكن يقال: وأنتم لم تذكروا حجة إلا قولكم، والقول في الحادث في ذاته كالقول في العالم الذي لابد لحدوثه من سبب، والأمر كذلك؛ لكن لم تذكروا حجة على امتناع حدوث هذا الحادث إلا مجرد الدعوى الأولى، وهو أنه يمتنع أن يصدر عنه شيء بعد أن لم يكن صادرا، وهذا هو نفس المذهب؛ فالاحتجاج به مصادرة على المطلوب؛ لكن يحتجون بأن ذلك يفضي إلى التسلسل؛ [ ص: 241 ] ولكن التسلسل في هذا ليس ممتنعا عندكم، فإنكم تقولون ما هو أبلغ من ذلك في الفلك.

ومن تدبر هذا علم أن القوم لم يذكروا على ذلك حجة أصلا، إلا مجرد المطالبة بقولهم: لم فعل بعد أن لم يفعل؟ والمطالبة بالدليل ليست دليلا على عدم المدلول، فإذا لم تعلموا لم أحدث؟ لم يكن هذا دليلا على امتناع الإحداث. فظهر أنهم لم يعلموا نفي الإحداث، وفرق بين العلم بامتناع الشيء أو عدمه، وبين المطالبة بدليلي جوازه أو علة وقوعه.

وهذا التحقيق يبين أن القوم كما قال تعالى: وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا [الأنعام: 112].

ومن فهم هذين الوجهين فهم الجواب عما يصفون به هذا القياس من الصور المختلفة؛ فإن المادة واحدة كقول بعضهم: "ما لأجله يكون المحدث محدثا: إما أن يكون [ ص: 242 ] حاصلا بتمامه في الأزل أو لا يكون؛ فإن لم يكن لم يحصل إلا لمؤثر، والكلام فيه كالكلام في الأول، فتسلسل، وهو محال. وإن كان حاصلا فمن المعلوم بالضرورة أن المؤثر إذا حصل مع جميع الأمور التي باعتبارها تتم مؤثريته، فإنه يستحيل [تخلف] الأثر عنه، فإذا يستحيل تخلف العالم عن الباري".

التالي السابق


الخدمات العلمية